“أيها المصريون قد قيل لكم أنني ما نزلت لهذا البر إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فأنا أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم”. بهذه العبارة استهل نابليون منشوره الأول الموجه إلى الشعب المصري في عام 1798 عند بدء حملته الشهيرة والتي دشنت أول اتصال بين الشرق والحداثة الغربية. ومنذ تلك الحقبة لم يتوقف التلاقي والصدام بين فرنسا والإسلام.
وهكذا اعتبارا من عهد الإمبراطورية إلى الحقبة الاستعمارية، وحتى الجمهورية الخامسة الراهنة، كان هناك دوما بعدٌ إسلامي في السياسة الخارجية لفرنسا، وحديثا غدا الإسلام جزءا من التركيبة الفرنسية. ومنذ سبعينات القرن الماضي أصبح الإسلام الديانة الثانية في فرنسا وأدى ذلك منذ ثلاثة عقود ونيف إلى طرح إشكالية عيش المسلمين في بلد غير مسلم من ناحية، وقدرة النموذج العلماني على استيعاب “صعود الإسلام” وظهوره إلى الواجهة من ناحية أخرى.
لقد كانت صدمة بروز الإسلام في المشهد الفرنسي، بصفته مكونا تجذّر واستوطن في بلد كان الابن البكر للكاثوليكية، قبل أن يصبح عنوان العلمانية الكاملة.
وبينما كانت مقاربة السياسيين التقليديين من دون عمق ومن دون مقاربة المستقبل وآفاقه وتعقيداته، التقط اليمين المتشدد هذا التطور كمنطلق لتعزيز دعايته واستقطاباته على خلفية تاريخية فاشية رافضة للآخر.
وتزامن ذلك تقريبا مع صعود الحركات الإسلامية الراديكالية في الشرق الأوسط، وتسربها نحو أوروبا مع ما فيها أيضا من نظرة ترفض الآخر. بيْد أن الحملات المعادية للعنصرية في حقبة فرنسوا ميتران وبقاء الوضع الاقتصادي في حالة بحبوحة حينها، لجمت تصاعد العداء للمهاجرين والإسلام، وفي أواخر عقود القرن العشرين زخرت فرنسا بوجود مفكرين وكتاب تطرقوا إلى الإسلام بإبداع وموضوعية من أمثال جاك بيرك وماكسيم رودنسون وأوليفيه كاريه وفانسان منصور مونتييه وهنري كوربان وبرونو ايتيان ومحمد أركون، وشكلوا رافعة لإغناء الفكر الإسلامي لم يستفد منها، مع الأسف، القيمون على المؤسسات الدينية الإسلامية، ربما بسبب عدم وجود مرجعية واحدة، أو لطغيان أنماط تفسيرية وجمود في الاجتهاد.
الآن كم يبدو البون شاسعا في المقارنة بين سعي فرنسا لاستمالة الإسلام والمسلمين في فترات سابقة، وبين الخطابات والأساليب الحالية التي تقارب الإسلام في الداخل الفرنسي وخاصة على ضوء خضات تترك أثرها في اللاوعي الجماعي مثل الحادث ضد صحيفة “شارلي إيبدو”. إزاء حالة الاحتقان انبرى الرئيس فرانسوا هولاند بالذات إلى الدعوة لعدم الخلط بين الإرهاب والإسلام والمسلمين، لكن عدم مشاركة شباب الضواحي في تجمعات 11 يناير ضد الإرهاب وصعود خطاب الإسلاموفوبيا، كانا مؤشرا إلى وعكة أصابت النموذج العلماني الفرنسي، وجرس إنذار في ما يخص تماسك المجتمع وحصانته.
في قطع للطريق على هجمة مارين لوبن، رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني القومي، وعلى مماحكة نيكولا ساركوزي العائد زعيما لليمين الكلاسيكي، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، أن عمليات القتل التي نفذها “إسلاميون محلّيون” ألقت الضوء على “التمييز الجغرافي والاجتماعي والعرقي” في فرنسا، في ما يمكن أي يعبّر عن أعنف إدانة للمجتمع الفرنسي تصدر عن مسؤول حكومي.
وأعاد فالس التذكير بأعمال الشغب في ضواحي باريس عام 2005، وأضاف: “إن إقصاء بعض الضواحي والأحياء المغلقة يزيد البؤس الاجتماعي الذي يُضاف إليه تمييز يومي، لأن اسم عائلتك أو لون بشرتك أو جنسك غير ملائم (..)”.
إنها إذن بوضوح ليست معركة أيديولوجية تحت يافطة البُعد الديني والحضاري للصراعات في العالم وفق قراءة البعض، وليست معركة الإرهاب أو الجهاد العالمي أو الغرب المعادي للإسلام فحسب، بل إنها أيضا مواجهة فرنسا مع ذاتها ومع التهميش فيها. ولذا يختلط البعد الاجتماعي والبعد الديني ورواسب الحروب الكولونيالية (الحقبة الجزائرية التي تتطلب جرأة استثنائية لطي هذه الصفحة من قبل الجانبين ومن الدولة الفرنسية في المقام الأول).
في موازاة كسر الغيتوات التي تتحول لمناطق معزولة خارج تغطية دولة الرفاه، والعناية بالمدرسة العامة التي شكلت تاريخيا أفضل وسيلة للاندماج والصعود في السلم الاجتماعي، لابد من نقاش وطني مفتوح حول مراجعة النموذج الفرنسي وتأقلمه مع فرنسا اليوم، إذ ليس من المطلوب إيجاد استثناء للإسلام ضمن العلمنة، بل جعل العلمنة الحيادية أكثر إيجابية وتفاعلا مع الهويات الفرعية، مقابل التشديد على أهمية الولاء الوطني حتى لا تقع فرنسا في مخاطر التفكك أو في مطبات قضايا مماثلة لقضية درايفوس، ذاك الضابط اليهودي الذي اتُّهِم زورا بعدم الولاء وكانت قضيته مفتاح مضبطة اتهام إيميل زولا، وأحد عوامل تأسيس الحركة الصهيونية.
عبر تاريخها كان لفرنسا مع الأديان شؤون وشجون. الثورة الفرنسية حاربت المسيحية الكاثوليكية، والبروتستانت لم يستقروا في المشهد إلا بعد حرب أديان، واليهود لم تقم مؤسساتهم إلا في عهد الإمبراطور نابليون، والمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية لم يرَ النور إلا في أوائل هذا القرن.
من حيث حرية العبادة للمسلمين الذين يجاور عددهم الستة ملايين، فإن الإشكالات محدودة وأغلبها لا يأتي من السلطات بل من تيارات دينية سلفية وراديكالية تدعو إلى الانكماش أو القطيعة.
لكن المشكلة الأساسية لا تكمن في ذلك ولا في انعكاس حراك الشبكات الجهادية العالمية، بل في البعد الاجتماعي والثقافي لأوضاع الشباب المهمش بشكل عام، والشباب المسلم بشكل خاص.
إن تصحيح النموذج الفرنسي يزيد من مناعة فرنسا وربما يجعلها مختبرا لتعددية خلاقة، خاصة إذا أدى العصف الفكري لتحولات عند المسلمين.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس