اكتشفتُ، يوم أمس، أن عدد مواطني كوريا الشمالية يبلغ قرابة 25 مليون نسمة.
أدهشني الاكتشاف، فقد كانوا، حسب معلوماتي، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي 40 مليون نسمة. ويجدر الاعتراف، الآن، أن تلك المعلومات كانت خاطئة، وأنها جاءت من مصدرين: الكتب، والنشرات الدعائية، التي كان الكوريون الشماليون يوزعونها في أماكن مختلفة من العالم، بما فيها بيروت، والتي تتوّجها، عادة، صورة كيم إيل سونغ، وتحتها عبارة “الزعيم المحبوب من 40 مليون كوري”.
أما المصدر الثاني فكان الجدار الخارجي لسفارة كوريا الشمالية، في بيروت الغربية، الذي كانت تزيّنه صور ومُلصقات دعائية، في صدارتها صور الزعيم، والعبارة التي حفرها التكرار في الذاكرة: الزعيم المحبوب من 40 مليون كوري. ولم أكتشف إلا يوم أمس أن العدد المذكور يمثل مواطني الكوريتين الشمالية والجنوبية، في ذلك الوقت.
ولا أفهم، اليوم، لماذا افترض الكوريون الشماليون أن زعيمهم محبوب من مواطني كوريا الجنوبية، التي كانوا، وما زالوا، يناصبونها العداء، أو حتى كيف وصلوا إلى قناعة لا تستثني أحداً من مواطنيهم، ولا مواطني جارتهم الجنوبية، من حب الزعيم.
المهم، أن لصور الزعيم المحبوب من أربعين مليون كوري حكاية تستحق أن تروى. وما يُحرّض على استعادتها يتمثل في الضجة، التي أثارها الكوريون الشماليون ضد فيلم “المقابلة” الأميركي. فقد اعتبروه عملاً حربياً، ووصفوا ساكن البيت الأبيض بالمجرم، لأنه انتقد تردد شركة سوني في عرض الفيلم بعد تلقي تهديدات، وتعهدوا بالثأر من كل المشاركين في هذا العمل.
وقد أثارت الضجة حب الاستطلاع لدى ما لا يحصى من بني البشر (وبينهم كاتب هذه السطور) لمشاهدة الفيلم، الذي حصد عوائد على الإنترنت بلغت 15 مليون دولار خلال أربعة أيام، إضافة إلى حوالي ثلاثة ملايين دولار من شباك التذاكر. ولماذا كل هذه الضجة، والدعاية المجانية لكوميديا، يمكنني القول، بعد مشاهدتها، إنها سخيفة، ولا ترتقي إلى مستوى كوميديا سياسية يمكن أن تعلق في الأذهان، أو حتى أن تؤثر فيها؟
الجواب: لأن الفيلم يسخر من الوريث العظيم الماريشال كيم جونغ أون، ابن القائد العزيز كيم جونغ إيل، وحفيد الزعيم المحبوب من أربعين مليون كوري كيم إيل سونغ. وهذه كلها ألقاب رسمية متداولة في جمهورية وراثية (من طراز جمهورية آل الأسد)، ولا تقل كفاءة عن خلافة الدواعش في التحريض على طرح أسئلة تخص علوم السياسة والنفس والاجتماع والتاريخ. وهذه ليست موضوعنا الآن.
قلتُ إن الفيلم سخيف، ولا يستحق كل هذه الضجة، بصرف النظر عن نفاق الأميركيين، وهبوط مستوى الثقافة الجماهيرية السائدة في تلك البلاد. المهم أن الضجة تعيدنا إلى يوم بعيد، في بيروت مطلع الثمانينيات. فوجئتُ، في ذلك اليوم، باثنين من موظفي السفارة يدخلان المكتب، وكلاهما وجه مألوف، فقد كانا يأتيان في مناسبات، وأعياد، مختلفة بمنشورات دعائية، وصناديق من النبيذ الوطني في بلادهم.
يومها جاء الموظفان للشكوى من حادثة فظيعة، مريعة، وشنيعة، وقعت. ففي ليلة سبقت حطّم شخص ما الغلاف الزجاجي للصور والملصقات الدعائية، ومزّق صورة الزعيم المحبوب من أربعين مليون كوري. تخيّل!!
ربما كان ذلك الشخص ولداً من أولاد كثيرين يلعبون كرّة القدم في الشارع، وقد كانوا من المشاهد المألوفة، وربما كان شخصاً يعاني من الضجر، في ساعة متأخرة من الليل، وربما استفزت أحد الجيران ابتسامة الزعيم المحبوب من أربعين مليون كوري، التي تلاحقه صباح مساء. وأخيراً، ربما أراد ولد سخيف التعبير عن امتعاض أيديولوجي مُبكّر فلم يجد وسيلة أفضل من قذف الصورة بحجر، مُجسّدا بذلك وهم اقتران الأفعال بالأقوال، في مدينة تهب عليها عواصف أيديولوجية كثيرة.
ومع ذلك، كان في غضب الكوريين، وينبغي أن نضيف إحساسهم الواضح بالذعر، ما هو أبعد من التفسيرات العقلانية. ففي مجرد وقوع فعل من نوع أن شخصاً قذف صورة الزعيم، المحبوب من الأربعين مليون كوري، بحجر ما يمثل انتهاكاً لشيء يتجاوز كل تفسير محتمل، ويتاخم حد انتهاك ناموس من نواميس الطبيعة.
وعلى الرغم من حقيقة أننا كنا مؤسسة إعلامية، ولسنا مركزا للشرطة، أو لميليشيا من تلك الميليشيات المسلحة الكثيرة، في تلك الأيام، إلا أن مجرد كوننا جيرانهم في الشارع نفسه، رشحنا، بحكم قانون الجيرة، لنكون أوّل المطلعين على تفاصيل تلك الحادثة الفظيعة، المريعة، الشنيعة..الخ
وليس من قبيل المجازفة القول إن الضجة التي يثيرها الكوريون الشماليون، هذه الأيام، ضد الفيلم، تنتمي إلى فصيلة الزوبعة الصغيرة في فنجان، التي أثارها الموظفان في يوم بعيد، ففي الحالتين كسر شخص ما، معلوم في ضجة الفيلم، ومجهول في زوبعة الزجاج المكسور، ناموساً من نواميس الطبيعة، واستنفر غضباً عارماً يمتزج بقدر واضح من الذعر.
لماذا، وما هي الدلالات السياسية، والنفسية، والاجتماعية، والتاريخية، التي تفسّر هذا؟
أسئلة كهذه تنتمي إلى سياق آخر، وليست مطلوبة أو ضرورية في نهاية عام ومطلع عام جديد، كل ما في الأمر اعتراف بخطأ في معرفة عدد الكوريين الشماليين، وكلام عن فيلم لا يحقق الإمتاع أو المؤانسة، واستعادة لحادثة اعتداء شخص ما على صورة الزعيم المحبوب من الأربعين مليون كوري، في يوم بعيد، بمناسبة الضجة التي أثارها اعتداء فيلم على حفيده، الوريث العظيم، الماريشال، كيم جونغ أون.
“تشيرز”.
khaderhas1@hotmail.com
القديم والجديد في الاعتداء على الجد والحفيد..!!
وما الفرق بين “الزعيم المحبوب” وبين “القائد الرمز” لدى الفلسطينيين وأمثالهم في العالم العربي؟