كانت السنة ٢٠١٤ بالنسبة إلى لبنان سنة المآسي والصعوبات والتعقيدات، سنة “داعش” السنّية والدواعش الشيعية التي تهدّد الوطن الصغير.
لكنّ ٢٠١٤ كانت سنة الأمل آيضا، في ضوءاستمرار اللبنانيين في المقاومة على الرغم من أن بلدهم من دون رئيس للجمهورية، أي من دون رأس للدولة. هناك بكلّ بساطة من يمنع انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان.
بكلام واضح وصريح، يرفض “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، لديه كتلة نيابية النزول إلى مجلس النوّاب للمشاركة في انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس ميشال سليمان الذي انتهت ولايته في الخامس والعشرين من أيّار ـ مايو الماضي.
يجرّ “حزب الله” معه إلى المقاطعة النائب المسيحي ميشال عون الذي لديه، بفضل الحزب، وليس لأي سبب آخر، كتلة كبيرة في مجلس النوّاب.
يدّعي عون أنّه يمثل الأكثرية لدى مسيحيي لبنان. الصحيح، انطلاقا من الأرقام، أنّه يمثّل قسما من المسيحيين، لكنّه لا يمثّل أي اكثرية من أيّ نوع كان. معظم نوّابه أصبحوا أعضاء في البرلمان بفضل الأصوات الشيعية التي يتحكّم بها “حزب الله” تحكّما ليس بعده تحكّم. عون نفسه كان على حافة السقوط في دائرة كسروان، التي يظنّ أنّه يمثلها، لولا الأصوات التي مدّه بها “حزب الله”…
خلاصة الكلام، أنّ ايران، التي تمتلك قرار “حزب الله”، و”حزب الله” الذي يتحكّم بعون، لا تريد رئيسا للجمهورية في لبنان. لماذا؟ الجواب أنّها تعتبر لبنان ورقة من أوراقها في المفاوضات مع “الشيطان الأكبر” السابق، أي مع الولايات المتحدة. المشكلة أنّ “الشيطان الأكبر” السابق لا يعتبر لبنان ورقة ايرانية.
لا يمكن في أيّ شكل جعل الإدارة الأميركية تهتمّ بلبنان وبإنتخاب رئيس له. لدى الإدارة هموم من نوع آخر، نظرا إلى أنّها تعتبر أن الملف النووي الإيراني يختزل كلّ مشاكل المنطقة وأزماتها، خصوصا أنّ الملفّ همّ اسرائيلي…أقلّه ظاهرا.
يمكن لأميركا أن تترك ايران تخرّب قدر ما تستطيع في لبنان. مشكلة لبنان تظلّ في النهاية مشكلة اللبنانيين انفسهم الذي يتوجّب عليهم حماية بلدهم في ظلّ العواصف التي تضرب المنطقة، على رأسها الحريق السوري القابل للتمدّد. وقد تمدّد هذا الحريق بالفعل.
من هذا المنطلق، تبدو الرئاسة اللبنانية همّا ايرانيا لبنانيا في الوقت ذاته. إنّها همّ ايراني لأنّ طهران تصرّ على أن لبنان “ساحة” تبعث عبرها برسائل إلى كلّ من يهمّه الأمر. إنّها همّ لبناني لأنّ هناك أكثرية لبنانية ما زالت حريصة على البلد. هذه الأكثرية تقاوم ثقافة الموت التي يسعى “حزب الله” إلى فرضها على اللبنانيين، خصوصا عن طريق عزل الوطن الصغير عن محيطه العربي. كان عزل لبنان عن العرب من أهمّ الإنجازات، الإيرانية طبعا، لحكومة “حزب الله” التي وضع الحزب على رأسها نائب طرابلس السنّي نجيب ميقاتي.
كان سقوط حكومة “حزب الله”، بالطريقة التي سقطت بها، من ابرز الدلائل على رفض اللبنانيين الإستسلام أمام السلاح غير الشرعي الموجه إلى صدورهم العارية من جهة وأمام الرغبة الإيرانية في تكريس الوصاية على البلد من جهة أخرى.
في الواقع، كانت السنة ٢٠١٤ سنة فاصلة على الصعيد اللبناني. على الرغم من كلّ الظلم الذي يتعرّض له اللبنانيون، هناك حكومة برئاسة شخصية توافقية اسمها تمّام صائب سلام. أكثر من ذلك، لبنان لا يزال صامدا في وجه “داعش” السنّية والدواعش الشيعية التي في اساسها السياسة الإيرانية القائمة على الإستثمار في إثارة الغرائز المذهبية. تفعل ايران ذلك انطلاقا من التحوّل الذي شهده العراق منذ العام ٢٠٠٣، أي منذ الإحتلال الأميركي الذي كان عملية مشتركة نفذّتها واشنطن وطهران بالتفاهم والتنسيق بينهما.
يدفع لبنان غاليا ثمن بداية تمدّد الحريق السوري إليه. هناك عسكريون مخطوفون عند “داعش” وما شابهها. هناك عسكريون آخرون قتلوا دفاعا عن بلدهم وهناك من ذُبح. وهناك هجمة مستمرّة على مدينة طرابلس التي لا ذنب لها سوى أنّها ترفض أن تكون حاضنة للإرهاب والإرهابيين في وقت هناك من يريد دفع الدولة اللبنانية إلى صدام مفتعل مع أهل السنّة.
الأكيد أنّ كلّ التضحيات التي قدّمها ويقدّمها اللبنانيون تستهدف إنقاذ بلدهم ودولتهم التي تبيّن أنّ الصيغة التي تقوم عليها أكثر متانة بكثير من الصيغ الأخرى في المشرق العربي…وحتّى في بعض بلدان المغرب كليبيا مثلا.
يستطيع اللبنانيون الصبر إلى يوم الصبر. أي إلى اليوم الذي تكتشف فيه ايران أن لبنان ليس ورقة وليس “ساحة” على الرغم من كلّ ما فعلته من أجل تمكين “حزب الله” من خطف الطائفة الشيعية الكريمة وتحويلها رهينة لديه.
والصبر يعني أوّل ما يعني أن لبنان سيحاور مجددا “حزب الله” ولكن من دون أوهام. الحوار بدأ وهو ضروري لمعرفة ما إذا كان لدى الحزب أي نية للمساعدة في انتخاب رئيس للجمهورية أولا والتخفيف من الإحتقان السنّي ـ الشيعي ثانيا وأخيرا.
كذلك، يعني الصبر أنّ من الأفضل التريث في انتخاب رئيس للجمهورية بدل الإتيان برئيس، من طينة ميشال عون، لا همّ له سوى القضاء على الجمهورية. لدى اللبنانيين تجربة قديمة مع هذا الرجل الذي كان قائدا للجيش والذي لا يحسن سوى التدمير. إنّه من قدّم كلّ الخدمات المطلوبة للنظام السوري كي يبسط سلطته على كلّ لبنان. سمح لهذا النظام في العام ١٩٩٠ بالدخول إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع ووضع اليد على كلّ منطقة في لبنان. سمح له بإذلال المسيحيين وكلّ مواطن يمتلك حدّا أدنى من الكرامة والشرف.
نعم، في استطاعة لبنان الصبر. الوضع ليس في السوء الذي يعتقده كثيرون على الرغم من الأخطار التي تُحيق بالعسكريين المخطوفين وعلى الرغم من وجود ما يزيد على مليون لاجئ سوري في لبنان…وعلى الرغم من التدهور الإقتصادي الذي يساهم فيه منع العرب من المجيء إلى لبنان والإستثمار فيه.
مرّة أخري، كانت السنة ٢٠١٤ سنة الصعوبات والمآسي والتعقيدات. لكنهّا كانت سنة الأمل أيضا. الأمل بأن تكون سنة لإنتخاب رئيس للجمهورية وليس سنة القضاء على ما بقي من الجمهورية عن طريق ادوات لدى الإدوات على شاكلة ميشال عون ومن على شاكلته من ذوي الثقافة السياسية دون المتواضعة بكثير الكثير.