كان لافتا في الاسابيع والاشهر المنصرمة غياب عدد من المبدعين اللبنانيين من الشاعر جوزيف حرب، الى الشاعر جورج جرداق، الى الشاعر أنسي الحاج، الى المطرب وديع الصافي، ومن بعده الفنانة صباح، واخيرا الشاعر سعيد عقل. واللافت ليس وفاة هؤلاء المبدعين، وقد تجاوز معظمهم عتبة العقود الثمانية، بل انتسابهم مجتمعين الى طوائف مسيحية يغلب عليها كون معظم هؤلاء من الموارنة.
كونهم موارنة من لبنان، اظهروا تعلقهم بطريقة استثنائية، ببلدهم، وابدعوا مجتمعين، كل على طريقته، في إعلاء شأن الشعر والغناء والطرب، والفلسفة، مع تسجيل هامش واسع في تجاربهم، خُصص لتمجيد فكرة لبنان وتعزيز كيانية الدولة، بما هي دولة تم إنشاؤها وتفصيلها على قياس الطائفة المارونية.
ما يثير التساؤل، ان هؤلاء المبدعين وسواهم، من تركة القرن الماضي، تركوا بصماتهم في حياتنا اللبنانية اولا والعربية ثانيا، فأعطوا للبنان معنى وحجما ودورا قارب في بعض جوانبه الاساطير، فاق حجم البلد الصغير، واستلزم الكثير من الوقت، لتنكشف هذه “الخدعة” المهضومة، واللطيفة والمسلية والممتعة في آن، ليظهر حجم البلد بتناقضاته وخلافات بنيه، بما لا يعكس لبنان المُغنى والمقروء شعرا ونثرا.
تجربة هؤلاء المبدعين لن تتكرر، أقله في المدى المنظور. إذ ان هناك حال من التخلي عن معنى لبنان وفكرته، في انتظار ان يتظهر دور لبناني جديد محليا وعربيا، بعد ان كشفت العولمة عورات الانظمة وأسقطت “الخدع”، اللطيفة منها والمؤذية، وفتحت الحدود والعوالم بعضها على بعض، وفي ظل تخبط اللبنانيين عموما، والموارنة خصوصا، في البحث عن ادوار ثانوية لا تتجاوز حدود الطائفة، التي تعيش هاجس اقلويتها.
وفي ظروف تكون الوعي الكياني لهؤلاء المبدعين من المسيحيين والموارنة، لا بد من التعمق في ظروف تشكل هذا الوعي، لدى الموارنة خصوصا، وتشكل وعيهم بانتمائهم الى جغرافية لبنان، بعد قرون من التهميش العثماني، والتمييز الذي ضرب وجودهم وتعامل معهم بما هم أقل من “أهل ذمة”. فكان اول تشكل وعيهم لوجودهم مع الامير فخر الدين، حيث كانوا يقاتلون تحت راية الامير، الذي أقـّر بفضلهم، لبأسهم واستبسالهم في معاركه، وللتوصية التي حظوا بها من امارة توسكانا، للامير فخر الدين بضرورة الانتباه الي الموارنة. ويقال ان فخر الدين، تحوّل الى الدين المسيحي، من دون ان يكون هناك ما يثبت هذا التحول.
مع الامير بشير الشهابي، تعزز وعي الموارنة بوجودهم، فبدأوا ينتفضون، وشهد الجبل اللبناني انتفاضات عدة، كان ابرزها تلك التي قادها يوسف بك كرم.
ومع الانتداب الفرنسي، وقبله، تعزز دور الموارنة اكثر فاكثر، فسارعوا الى الالتحاق بمدارس الارساليات، وبمدرسة روما، وصولا الى مفاوضات الاستقلال التي كان احد روادها البطريرك الياس الحويك، الذي رفض ضم “وادي النصارى” في سوريا الى جبل لبنان، مفضّلا ضم سهل البقاع والجنوب الى الكيان الوليد، وفي يقينه، ما قاله الامبراطور غليوم الثاني الذي زار لبنان أبان المجاعة، حيث قال “إن خصوبة نساء الموارنة لا تتناسب وحجم الموراد الطبيعية للارض التي يعيشون عليها، وعليهم إما الهجرة وإما التحول الى الدين الاسلامي، ليستفيدوا من خيرات سهل البقاع”.
ومع تسلّم السلطة بعد انتهاء عهد الانتداب، التحق الموارنة بإدارات الدولة، في ظل مقاطعة إسلامية للدولة الوليدة، فشكلوا الادارة الكاملة في لبنان في اعقاب الانتداب، وتولوا المراكز الرئيسية والثانوية في معظمها، حين كان يمثل التحاق اي مسلم بإدارة الدولة خيانة.
في ظل هذه الظروف تشكل الوعي المسيحي عموما والماروني خصوصا لكيانيتهم، التي كانت الدولة اللبنانية بحدود سايكس – بيكو، دولتهم، ومثـّل سائر اللبنانيين رعايا يقومون على خدمتهم. وفي ظل هذا التشكل، بدأت فكرة لبنان تتبلور، وتمظهرت شعرا ونثرا وغناء وتمجيدا للجغرافيا اللبنانية مناخا وسياحة، وابدعوا في رسم صورة “وردية”، قاربت في بعض جوانبها “الاحلام التي لا تصدق”، ما ساهم في تشكيل نهضة إقتصادية، كانت ايضا في بعض اوجهها زائفة. بدليل تقرير “بعثة ايرفد”، التي استعصى عليها فهم مفاتيح سير الاقتصاد اللبناني، فاوصت بالابقاء عليه كما هو.
مع اندلاع الحرب، بداية العام 1975، والتي يسود اعتقاد بانها تأخرت عن مواعيد عدة سابقة، بدأ لبنان يفقد وظيفته تباعا، وبدل السياحة تحول الى بلد العنف، وكان الموارنة منخرطين حتى العظم في هذه الحرب، تحت مسميات عدة، محاولين الحفاظ على لبنانهم الذي لم يعد يلبي حاجات مواطنيهم من الطوائف الاخرى التي تشاطرهم العيش على الجغرافيا الواحدة. وتحولت السياحة الى تفنن في أشكال الحروب، من هدم وتدمير لكل معالم الـ”لبنان” السابق، ليستمر الهدم الى يومنا، هذا. فتبدلت وظيفة البلد، من جامعة الشرق الاوسط ومستشفى الشرق الاوسط وسياحة الشرق الاوسط ليرسم فريق لبنان من الطائفة الشيعية وظيفة جديدة للبنان، هي كما وصفها إختصارا رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، النائب محمد رعد، “لبنان المقاوم”.
تزامناً، وفي المقابل، تراجع الدور المسيحي عموما والماروني خصوصا بعد الحروب المسيحية-المسيحية، والتي توجها الجنرال عون بـ”حرب الالغاء”. فكانت الضربة القاضية لحلم عاشه المسيحيون في مربعهم الذي امتد من المتحف الى محلة جسر المدفون، وتحولت مناطقهم خرابا يحاكي سائر المناطق اللبنانية التي عانت بدورها حروبا محلية ومناطقية.
تراجع الدور المسيحي والماروني، تزامن ايضا مع فقدان لبنان لهويته وكيانيته، وعدم قدرة القوى المتسلطة الاخرى على بلورة وظيفة جديدة ودور ومعنى للبنان يرضي جميع اللبنانيين. فمن الطبيعي، والحال هذ، ان يتخلف المبدعون الى حد الانقراض، بوفاة الاسلاف، إضافة الى اختلاف اشكال التعبير في ايامنا الحاضرة عن تلك التي كانت سائدة في القرن الماضي، فاصبح كل مواطن قادرا على التعبير عن آرائه بحرية، في زمن “الفاست فوود” والسرعة القياسية في تلقي الاخبار، وملاحقتها والتعبير عن الرأي في الكبائر والصغائر.
والى ان تتوضح من جديد وظيفة لبنان الذي نعيش فيه، سنفتقد كل المبدعين، من دون إغفال احد، مطربين ومغنين شعراء وكتاب نثر. سنفتقد الابداع في الرسم والنحت والموسيقى والمسرح والسينما وكل اشكال الابداع الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا.
richacamal@gmail.com