أمضى «الإخوان المسلمون» 84 عاماً يكدحون في أوساط المعارضة المصرية قبل أن يفوزوا بالسلطة في حزيران/
يونيو 2012 ليعودوا ويخسروها بعد 369 يوماً فقط. ومنذ ذلك الحين أخذت «الجماعة» تمر بأوقات عصيبة.
ففي الأشهر الأربعة عشر التي تلت استجابة الجيش للاحتجاجات الضخمة عبر إسقاط الرئيس المصري “الإخواني” السابق محمد مرسي ، واجهت «الجماعة» حملة قمع شديدة قضت عملياً عليها كقوة سياسية في مصر. وفي الوقت نفسه، أدى تدهور علاقات «الإخوان» بالحكومات الأجنبية الرئيسية إلى إعاقة محاولاتها لإعادة تنظيم نفسها في المنفى. ورغم كل ذلك، لم تعدّل «الجماعة» من أيديولوجيتها ولم تغيّر من استراتيجيتها. إذ رفضت السعي إلى المصالحة مع النظام المصري الجديد أو التشكيك في جدوى جدول أعمالها الديني. وفي الواقع، ومن خلال اختيار زعيم «الإخوان» المقيم في لندن جمعة أمين ليكون قائماً بأعمال المرشد العام، أي رئيساً تنفيذياً، من المرجح أن تكون «الجماعة» قد زادت من التزامها باستراتيجيتها.
والملاحظ أن الفترة التي تلت سقوط مرسي كانت الأحلك في تاريخ «الإخوان» الممتد على مدى 86 عاماً. ففي داخل مصر، قُتل 1000 فرد من «الجماعة» على الأقل خلال عمليات قمع الاحتجاجات المناهضة للانقلاب الذي أطاح بمرسي، فيما سُجن عشرات الآلاف، وجُرّدت سلسلة القيادة في «الجماعة»، المعروفة بتصلبها، من قيادييها على المستويين الوطني والإقليمي. بالإضافة إلى ذلك انهار أيضاً “التحالف الوطني لدعم الشرعية” المناصر لمرسي: إذ تم إلقاء القبض على العديد من قادة التحالف من غير «الإخوان» في أوائل تموز/ يوليو، كما وانسحب بعد ذلك طرفان من الأطراف المؤسسة للتحالف، أي حزب “الوسط” المتشعب من «الجماعة» وحزب “الوطن” السلفي. وفي الوقت نفسه، فإن تمرد كوادرها غير اللافت للإنتباه ضد الدولة، والذي يستهدف المباني الحكومية وسيارات الشرطة، قد أبعد الكثير من المؤيدين المدنيين المحتملين. فغالباً ما يتصادم المصريون العاديون مع «الإخوان المسلمين» في مظاهراتهم المؤيدة لمرسي والتي يتضاءل عدد المشاركين فيها باستمرار.
إن محاولة «الإخوان» إدارة شؤونهم من الخارج قد تعثرت أيضاً. فقطر، التي دعمت رئاسة مرسي بقوة ومنحت العديد من شخصيات «الجماعة» اللجوء السياسي عندما تمت الإطاحة بمرسي، استجابت مؤخراً لضغوط الدول الخليجية المجاورة والمعادية لـ «الإخوان» وطلبت من كبار قادة «الجماعة» مغادرة الدوحة. (ويبقى أن نرى ما إذا كانت قطر ستعدّل من افتتاحية شبكة الجزيرة المؤيدة لـ «الإخوان»، أو ستوقف تمويل مختلف وسائل الإعلام الأخرى الموالية لـ «الجماعة»، والتي يقوم العديد منها بتوظيف أعضاء «الإخوان المسلمين» في المنفى). ومن جهة أخرى، فإن المملكة المتحدة التي تشكل ملاذاً آمناً لـ«الإخوان»، حيث حافظت «الجماعة» هناك على وجود بارز يشمل مكتباً إعلامياً كان قد تأسَس منذ عقود، لم تعد ترحب كثيراً بهذه «الجماعة». ففي وقت سابق من هذا العام أجرت الحكومة البريطانية تحقيقاً حول أنشطة «الإخوان» في لندن، وعلى الرغم من أن التحقيق، وفق ما ورد، لم يعثر على أي صلة مباشرة ما بين «الإخوان» والجماعات الإرهابية، إلا أن الكثيرون يتوقعون أن تفرض المملكة قيوداً على أنشطة «الجماعة» في البلاد. أما تركيا، التي تحتضن مركز قناة “رابعة” الفضائيات التابعة لـ «الجماعة»، فتُعتبر في الوقت الراهن الملاذ الوحيد الموثوق به لـ «الإخوان المسلمين»، على الرغم من أن «الجماعة» تبدو على دراية تامة بتدهور مكانتها الدولية ويُقال أنها تدرس في اختيار تونس وماليزيا كقاعدتين احتياطيتين لها.
وعلى الرغم من هذه الإخفاقات، رفضت جماعة «الإخوان» إعادة النظر في نهجها. وفي الواقع، ومن وجهة نظرها، لا يزال أعضاؤها يشاركون بنفس الكفاح الذي حدد عمل «الجماعة» منذ تأسيسها عام 1928، والذي يقوم على “أسلمة” المجتمع المصري لكي تتمكن «الجماعة» من إقامة دولة إسلامية في مصر، لتقوم بعد ذلك ببناء دولة إسلامية عالمية تعمل على درء النفوذ الثقافي والسياسي الغربي.
إن تعنّت «الإخوان»، حتى في مواجهة مثل هذه الانتكاسات الحادة، ليس أمراً مستغرباً. فبعيداً عن كونهم أعضاء في جماعة “معتدلة” أو “واقعية” كما وصفهم العديد من المحللين المتفائلين، فإن «الإخوان» يشكلون جماعة مغلقة تحتل الطليعة وتتمتع بأيديولوجية متأصلة. وهي تسعى، على حد تعبير مؤسسها حسن البنا، إلى تطبيق الإسلام على أنه “مفهوم شامل ينظم كافة جوانب الحياة”، كما تنشر أعضائها كجنود على الأرض يعملون على تعزيز هذه الرؤية الشمولية. وبغية ضمان الصفاء الإيديولوجي للحركة ووحدة هدفها، يخضع كل «أخ مسلم» لعملية تدريب تُعرف باسم “التربية” تمتد ما بين خمس وثماني سنوات يتم خلالها التحقق من التزام الأعضاء الذين علا شأنهم بقضية «الإخوان المسلمين» ومن استعدادهم لمتابعة أوامر قادة «الإخوان» لتنفيذ هذه الالتزامات. وبعبارة أخرى، هم ليست مجموعة غير متيقنة من قناعاتها، بل مجتمع منعزل في حالة ثمالة من رواياته الخاصة.
ويمكن رؤية الدليل على ذلك في الاختيار الواضح لـ”المرشد العام” الجديد. إذ تم اعتقال المرشد السابق في شهر آب/أغسطس الماضي، ومنذ ذلك الحين بقيت قيادة «الإخوان» غير واضحة. لكن في وقت سابق من هذا الشهر، أعلن زعيم سابق في «الجماعة» أن جمعة أمين يتزعم «الإخوان» في الوقت الحالي. ويُذكر أن أمين هو من كبار قادة «الجماعة» الذين لا يقبعون في السجن ولا يختبئون. فقد تولى لفترة طويلة منصب زعيم “مكتب الإرشاد”، وهو عبارة عن الهيئة التنفيذية لـ جماعة «الإخوان» التي تتألف من ثمانية عشر عضواً، وبقي بأمان في لندن ليتلقى العلاج الطبي في وقت الإطاحة بمرسي، كما وأنه استوفى إحدى مسؤوليات المرشد العام النموذجية في الأشهر الأخيرة من خلال كتابة خمسة من البيانات الأسبوعية لـ «الجماعة».
ويُعتبر جمعة أمين أيضاً من أهم الدعاة المعاصرين لنهج «الإخوان» الفريد من نوعه والقائم على تطبيق الشريعة باعتبارها “مفهوماً شاملاً” من خلال العمل على مستوى القاعدة الشعبية سعياً إلى الوصول إلى السلطة السياسية – وإلى السلطة العالمية في نهاية المطاف. وفي كتابه “الفريضة المفترى عليها: الجهاد في سبيل الله”، والذي يدرسه «الإخوان المسلمون» كجزء من المناهج الدراسية المطلوبة في «الجماعة»، يردد أمين تفسير حسن البنا للإسلام كنظام شامل يُنظّم جوانب الحياة كافة من المهد إلى اللحد. وبغية تطبيق رؤيته هذه، يدعو أمين قراءه لممارسة الجهاد، والذي يوضح أنه يشمل محاربة الكفر و”الظروف الفاسدة للعلاقات الإنسانية والحوكمة والتعليم والاقتصاد”.
ورغم أن أمين يؤمن بفكرة الجهاد العنيف في ظل ظروف معينة، إلا أنه يدافع في المقام الأول عن “الكفاح” من خلال المذهبة أو الدعوة. إذ كتب في دراسته: “يتوجب على أولئك الذين يعملون في الحركة الإسلامية أن يبدؤوا بالإلمام الكامل بالإسلام وأن يؤمنوا بقدرة الدعوة على حل المشاكل الفردية والمجتمعية”. ويؤكد أمين على أن إصلاح الفرد والمجتمع من خلال الجهاد والدعوة هي مشاريع طويلة الأجل تتطلب الكثير من الوقت والمثابرة.
وعلى الرغم من أن هذا النهج التدريجي في الأسلمة يميّز «الإخوان» عن الجماعات الأخرى مثل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، والذي سبق له أن أعلن قيام دولة إسلامية عبر القوة الغاشمة، إلا أن أمين يسلط الضوء على المناهضة الشديدة للغرب التي يتبناها التياران الإسلاميان. فهو يعتبر أن النفوذ الثقافي الغربي في أراضي المسلمين يشكّل تهديداً للحضارة. وفي هذا الصدد كتب “الإنسان يعيش في بيت كبير للدعارة. انظروا إلى شكل العالم الخارجي، في الأفلام والمعارض والأزياء ومسابقات الجمال والنوادي والحانات والراديو. انظروا إلى الشراهية المجنونة تجاه اللحم العاري، إلى الظروف الاستفزازية والخلاعة في الأدب والفن والإعلام … على رأس التدهور الأخلاقي والانحطاط المجتمعي اللذان بدآ يهددان كل نفس وكل عائلة وكل مجتمع. وبالتالي مصيرها جميعاً هو الدمار والهلاك”.
فبرأي الكاتب، الطريقة الوحيدة لتصحيح وضع الفجور المستوحى من الغرب يكمن في نشر تفسير «الإخوان» للإسلام. وفي الواقع، هو يعتبر أن القيام بذلك واجب مطلق يقع على عاتق كل مسلم. ويضيف، “من أجل حماية حقوقنا وحفظ كرامتنا والإبقاء على هويتنا واضحة، ستبرز الحاجة إلى القتال في سبيل الله بقصد تهديد الأعداء وتخويفهم من مغبة الإعتداء على المسلمين وأراضيهم وشعبهم”. وسيظل هذا الواجب الديني ساري المفعول إلى يوم القيامة. بتعبير آخر، لا بد من استمرار استراتيجيات «الإخوان»، بغض النظر عن العقبات التي تواجه أعضاء الحركة في مصر.
وقد أكد جمعة أمين على هذا الالتزام الثابت بأفكار «الجماعة» في نشراته الإخبارية الأسبوعية الصادرة عن «الإخوان المسلمين». وفي إطار استنكاره للحالة الراهنة من الفساد والفجور، كتب أمين أن “الإسلام بحاجة إلى دولة وسلطة يكون من أهم أدوارها حماية عقيدة [الأمة الإسلامية] التي تلقى السخرية في يومنا هذا، بالإضافة إلى ترسيخ طقوسها والتزامها بالدين إلى أن تحكم كافة [جوانب] الحياة”. بعبارة أخرى، وعلى الرغم من موقف «الإخوان» السياسي المتزعزع على نحو متزايد، يتمسك أمين بالرؤية الأيديولوجية نفسها التي اعتنقها قبل أكثر من 15 عاماً. كما أنه متيقن بشكل مطلق من أن الإسلام هو ببساطة “انتظار أجيال من الرجال والنساء الذين يؤمنون بما وعد الله”. فوفقاً للكاتب، السؤال المطروح في هذا الإطار ليس حول إمكانية عودة الإسلاميين إلى السلطة ولكن عندما يعودون إليها. وبالتالي لا يرى أي حاجة للتنازل عن مبادئ «الإخوان» أو عن استراتيجيتهم.
ومع ذلك، فإن التعنّت الأيديولوجي لـ «الجماعة» قد يهدد وجودها على المدى الطويل. ويقيناً، أن جمهورها الكبير الذي يبلغ قوامه مئات آلاف [المؤيدين] لن يزول: إذ تم التحقق من التزام جميع هؤلاء المؤيدين بأيديولوجية «الإخوان» وأقسموا على اتّباع فتاوى قادة «الجماعة»، وسيبقون على الأغلب مقتنعين بهذا النهج لسنوات. إلا أنه من المرجح أن يكون تجمّع المجندين من «الإخوان» آخذاً في الانحصار: فهو الآن يشكّل نموذجاً للفشل السياسي، وأن التزام قادته بمشروع غير موثوق لن يجذب المؤيدين في أي وقت قريب.
إريك تراجر هو زميل واغنر في معهد واشنطن. جافي برنهارد هو مساعد أبحاث في المعهد. وقد ظهر هذا المقال في الأصل على موقع “فورين آفيرز”.
العنوان الأصلي: هل جماعة «الإخوان» في ورطة؟ جمعة أمين ومستقبل «الإخوان المسلمين»