في بداياتها المتفائلة، منذ أواخر العام ٢٠١٠ في تونس وحتى العام الماضي، أعلنت موجة “الربيع العربي” نهاية “الإستثناء العربي” (ما أطلق سمير قصير عليه تسمية “الشقاء العربي”) والتحاق العرب، عبر جيلهم الشاب “الإنترنيتي” بالعالم الحديث! عالم ما بعد سقوط الإتحاد السوفياتي و”منظومته”. وصعود مقولات الحرية والكرامة وحقوق الإنسان التي غالباً ما حملتها الطبقات الوسطى في التاريخ الأوروبي. العرب (كما بدوا لحظتها) ليسوا خارج “العقلانية” التاريخية.
لعل أعظم إنجاز حقّقه تنظيم “داعش”، ولاحقاً “الدولة الإسلامية”، خلال الأشهر الأربع الأخيرة، هو إعادة الإعتبار لـ”اللامعقول” في نظرة العرب إلى أنفسهم، وفي نظرة العالم إلى العرب! أي إحياء “الإستثناء العربي” (و”الإسلامي” ضمناً)!
فخلال أربعة أشهر فقط، احتلّ تنظيم “داعش” ثاني مدن العراق (الموصل)، وانهار جيش نوري المالكي (الأميركي التجهيز، و”الميليشياوي-الشيعي” العقيدة)، وألغى “داعش” الحدود بين سوريا والعراق (وهذا حلم “بعثي” قديم!)، وأعلن قيام “الخلافة” على يد خليفة “بغدادي” في يده “علامة رولكس” ربّانية!
ولأول مرة في تاريخ الإرهاب “الإسلامي”، برزت ظاهرة التحاق أبناء المغتربات الأوروبية والأميركية بصفوف “داعش”، وليس بالعشرات كما في عهد “القاعدة”. فالأرقام المتداولة في الغرب تقدر الأعداد بما يتراوح بين ١٥ و٢٥ ألف شاب يحملون جنسيات غربية، بعضهم ممن اعتنق الإسلام حديثاً! هذه الظاهرة الكبيرة جداً أُدرِجت في خانة تعزيز “الإستثناء العربي والإسلامي”! (معظم التعليقات على هذه الظاهرة المهمة لم تتطرّق إلى الأثر الخطير للتلفزيونات العربية والإسلامية التي تبث برامجها عبر الأقمار الصناعية (بدءاً بـ”الجزيرة”) في وعي الشباب المسلم في “المهاجر”، وحتى في المعتقدات الإسلامية لشعوب شمال إفريقيا التي تنتقل الآن من “الإسلام الصوفي” إلى “الإسلام الأصولي”).
صحراء عربية إسلامية!
الأخطر من إنجازات “داعش” العسكرية هو إحساس معظم العرب، ومعظم نُخَبِهم، ومعظم العالم، بأن أوضاعهم “ميؤوس منها”، وأن “ربيعهم” كان “خريفاً وشتاءً”، وأن أفكار “الحرية” و”التقدّم” و”حقوق الإنسان”، و”التسامح” لا تنبت
في “صحراء عربية-إسلامية”!
وبعد ذلك كله، أي بعد “يأس” العرب من أنفسهم، ويأس العالم من “العرب” ومن “المسلمين غير القابلين للتطوّر”(!)، بات الباب مشرّعاً على مصراعيه، كما قال محلّل فرنسي، لاستئناف الحوار مع نظام بشّار الأسد الذي يظلّ أفضل من أي “بديل” متوفّر! وربما لـ”الصفقة الكبرى” مع “نظام الملالي” في طهران الذي يمكن التفاهم معه لضبط العراق وسوريا. (هل هي محض صدفة أن حرب ٢٠٠٦ في لبنان وقعت، هي الأخرى، في ظرف تعثّر المفاوضات الإيرانية مع أميركا، مثلما هو الحال منذ بضعة أشهر؟)
لأن “اللاعقلانية” و”اليأس من العرب والمسلمين” ليسا أدوات صالحة للتحليل، فلا بدّ من العودة إلى موضوع “داعش” من نواحٍ أخرى،
“براغماتية”
والخلاصة التي يمكن أن نصل إليها (وهذا ما سوف نعرضه في ما يلي، وفي مقالات لاحقة)، ونحن هنا نستعير معلومات “شبه رسمية” فرنسية، هو أن “الدولة الإسلامية”، وإجرامها “البدائي”، هي تكرار، على نطاق أوسع وأكثر إتقاناً، لتجربة اختراق الحركات الإسلامية في الجزائر في تسعينات القرن الماضي. وقد نجح النظام الجزائري في اختراق جماعات “الإسلاميين”، وحتى في خلق بعض هذه الجماعات، واستخدم “عنفها الإجرامي”، أحياناً، لتحقيق مآربه السياسية. ولا تشكّ الأجهزة الفرنسية اليوم، مثلاً، في أن عملية قتل الرهبان الفرنسيين في الجزائر تمت بأوامر الأمن العسكري الجزائري، وليس بوحي “إبن تيمية”!
وتعتقد المصادر الفرنسية، “شبه الرسمية”، بأن لكل من نظام الأسد ونظام نوري المالكي “امتدادات” داخل “داعش”، من غير أن تستبعد “امتدادات” أخرى، إيرانية وروسية وتركية..
المحك الآن هو هل سيستمر الإئتلاف الدولي المناوئ لـ”الدولة الإسلامية” في رفض التعاون المباشر مع نظام الأسد ومع نظام طهران ضد “داعش”؟
في أي ظرفٍ ظهر تنظيم “داعش” و”الدولة الإسلامية”؟
نقطة أساسية تظل غائبة في التحليلات العربية، وأيضاً، في التحليلات الأميركية والأوروبية (تكفي مراجعة “العموميات” التي تحفل بها الصحافة الكبرى في أميركا وبريطانيا وفرنسا حينما يتعلق الأمر بتنظيم “داعش”!)، وهذه النقطة هي: ما هو تنظيم داعش؟ وفي أي ظرف وإقليمي ودولي قام بـ”غزوته”؟
بالنسبة للظرف الإقليمي والدولي، يمكن إيراد بضعة خيوط قد تكون ذات مغزى: أولها تعثر المفاوضات الأميركية-الإيرانية في الأشهر الأخيرة بسبب عودة النظام الإيراني إلى التصلّب في الملف النووي وسط أنباء عن خلافات داخل النظام حول هذا الملف؛ وصمود النظام السوري بفضل الدعم الإيراني، وبفضل الدعم الروسي أيضاً؛ وما لم يتم التركيز عليه كثيراً هو أن روسيا بوتين تبني أكبر قاعدة عسكرية روسية خارج أراضيها في ”طرطوس” وأنها تولّت نظم الدفاع الجوي في سوريا مباشرةً، ما يعني أن قصف قوات الأسد يمكن أن يتسبّب بصدام أميركي-روسي مباشر. وهذا في حين تخوض روسيا بوتين معركة استعادة نفوذٍ دولي عبر عدوانها الصريح على أوكرانيا.
أما على مستوى المعارضة المسلحة لنظام الأسد، فقد تم اختراقها، بفضل جهود “مخابراتية” سورية (وروسية أيضاً على الأرجح عبر “المتطوعين الشيشان”). كما لعبت إيران دوراً في عملية “الإختراق” هذه، وهي مؤهلة لذلك لأن “الحرس الثوري” الإيراني تولّى نقل مقاتلي “القاعدة” الفارّين من أفغانستان في العام ٢٠٠١ إلى العراق. معظم هؤلاء أصبحوا أعضاء في جماعة “الزرقاوي” قبل أن يصبحوا ”داعشيين” الآن. (بضع مئات من “القاعديين” ومن “الجماعة الإسلامية” و”الجهاد” المصرية ظلوا في إيران حتى فترة قريبة. خرج قسم كبير منهم، ولكن تظل فيها قيادات مهمة مثل المسؤول العسكري السابق لـ”القاعدة”، “سيف العدل”، وبعض أبناء أسامة بن لادن).
من هي قيادات “داعش”؟
لا تتوفّر حتى الآن صورة دقيقة (في كل ما نُشِر في صحافة العالم) لهيكلية تنظيم “داعش”. وهذا مع أن تنظيماً “سرّياً” مثل “القاعدة” كان معروفاً بدرجة أكبر حتى قبل ١١ سبتمبر ٢٠٠١.
المعلومات المتوفرة، والموثوقة، هي أن قيادات التنظيم هي من القيادات السابقة في “الحرس الجمهوري” و”الحرس الخاص” لنظام صدام حسين، وفي أجهزة الأمن الصدّامية الكبيرة جدا، وفي الجيش العراقي الذي حلّه حاكم العراق “بول بريمر” وألقى بضباطه في البطالة (وهذه أعظم خطيئة ارتكبها الأميركيون في العراق). وأن “الخليفة البغدادي” قد لا يكون الشخصية الأولى في التنظيم.
أي أن “وحشية” تنظيم “داعش” ربما تكون وحشية “صدّامية” على الأقل بقدر ما هي وحشية “أصولية”! هل يذكر أحد اليوم مشاهد إعدام المتمردين الشيعة (موجودة على فيديوات متوفرة على الإنترنيت) على يد إبن عم صدام “علي الكيمياوي” وزمرته بعد سحق الإنتفاضة الشيعية التي تلت الإنسحاب من الكويت؟ وما الفرق بينها وبين مشاهد إعدام “داعش” للجنود السوريين العلويين الأسرى أو الجنود العراقيين الشيعة بعد سقوط الموصل؟ ألم يكن نظام صدام حسين سبّاقاً إلى “الداعشية” بعد هزيمته في الكويت حينما أضاف “الله أكبر” إلى ألوان العلم العراقي؟
إعدام “مسرحي”، وليس “عشوائي”، للصحفيين الأميركيين
وحول نقطة “الوحشية” هذه، فقد اتخذت عمليتا إعدام الصحفيين الأميركيين طابعاً “مسرحياً” يتّسم بـ”الحداثة” بقدر ما يعبّر عن “همجية إسلامية”! وكانت عمليتا الإعدام “رسالة لصانعي السياسة الأميركية” (وهم أنفسهم صانعي السياسة الأوروبية!).
ولم يركّز أغلب المحلّلين على أن الصحفيين الأميركيين، اللذين فصلت أيام قليلة بين عمليتي إعدامهما، كانا قد خُطفا في سوريا وليس في العراق. وأنه سبق للنظام السوري، خصوصاً في السنة الأولى للثورة، أن اغتال صحفيين أجانب، أو سعى لاغتيال بعضهم، وأنه كان يخترق الجماعات المسلحة التي خطفت صحفيين، أو كان يقوم هو نفسه بخطفهم تحت غطاء التمرد المسلح.
ولكن الموضوع يزداد تعقيداً حينما تؤكد معلومات “موثوقة” بدورها أن بعض القيادات العسكرية للتنظيم عاشت سنوات في “سوريا الأسد” بعد سقوط صدام، ومارست “زعرناتها” في بارات دمشق بكل حرية. بل إن بعض هذه القيادات، حسب معلومات موثوقة، عاد إلى بغداد قبل أشهر من “غزوة داعش” بعد أن تصالح مع نوري المالكي! أي أن رئيس حكومة العراق السابق لم يكن مقطوع الصلة بالتنظيم الإرهابي!
طبعاً، ينبغي أن يضاف إلى هذه التركيبة “القيادية” لتنظيم “داعش” (أو “الدولة الإسلامية”) عدد من قيادات العشائر السنّية التي اضطهدها نوري المالكي وأذلّها.
قوات المالكي ”انسحبت بصورة منتظمة” من الموصل؟
ماذا يعني ذلك؟ المعارضة السورية تؤكد أن “داعش” لم تقاتل النظام السوري يوماً، على الأقل حتى سقوط “الموصل”، وهذا صحيح. والمالكي نفسه لم يعزل جنرالاته (من “الشيعة”) الذين سلموا الموصل لـ”داعش”.
والأخطر هو أن معلوماتٍ من مصادر أوروبية موثوقة تؤكّد أن الأقمار الصناعية التي التقطت مشاهد انهيار جيش المالكي في “الموصل” لم تسجّل مشاهد جيشٍ يتفكك ويفرّ من ساحة القتال، بل سجّلت مشاهد قوات عسكرية تصعد إلى الشاحنات وتنسحب بصورة منتظمة، وكأنها تنفذ أوامر صدرت لها بالإنسحاب! وهذا ما استوعبته الحكومات الغربية ببطء.
وماذا عن الدعم التركي لتنظيم “داعش”، هل سيتوقف الآن؟ حتى أيام خلت، كانت فنادق ”أنطاليا” شبه مقرّات لتنظيم ”داعش”، للتجنيد وللعلاقات مع تجار النفط والسلاح! النجاح الذي سجّله تنظيم “داعش” في بيع النفط المهرّب وفي إقامة شبكات دولية لاستيراد السلاح ألا يذكّر بأن أجهزة صدام حسين كانت قد تخصّصت بكسر العقوبات الدولية وبإقامة شبكات تهريب موازية؟
وهل ستنجح دول الخليج في ضبط الدعم المالي “الخاص” لهذا التنظيم؟ وهل هنالك دور “قَطري” في موضوع “داعش”؟
الموضوع العراقي معقّد، ولكن يبدو لنا أنه لا يكفي ربط التطوّرات العراقية بصعود “التشدد الإسلامي”، وبكلام آخر، ليس هنالك ”إرهاب إسلامي صافٍ” في العراق: فهنالك أطراف عربية وغير عربية (إيران وتركيا) تلعب أدواراً غير واضحة في العراق “المُستباح”.
أغلبية عربية-إسلامية واضحة معادية للتطرّف!
وبالعودة إلى موضوع ”الإستثناء العربي-الإسلامي”، لنلاحظ بعد ذلك كله أن “استطلاع معهد بيو” الأميركي للرأي الذي يتمتع بمصداقية كبيرة (نشره “الشفاف” بالإنكليزية فقط، وهو الوحيد من نوعه) الذي شمل عدداً كبيراً من الدول العربية والإسلامية سجّل، قبل أسابيع من غزوة داعش، أن النسبة الغالبة جداً، وبأرقام تفوق ٧٠ بالمئة، من العرب والمسلمين تشعر بقلق متزايد، أي أنها تأخذ موقفاً سلبياً، من الحركات المتشددة كلها مثل “القاعدة، و”حماس” و”حزب الله” وغيرها.
أي أن صعود هذا التنظيم “الهمجي” لا يعبّر عن “مزاج عربي” أو “إسلامي” (رغم فوز إردوغان بالرئاسة لأسباب إقتصادية وأخرى خاصة بتركيا) في هذه اللحظة التاريخية. لسنا في ”لحظة أصولية” تعادل ”اللحظة الناصرية”، أو ”لحظة مدّ المقاومة الفلسطينية”. بالعكس، تماماً!
من “الولي الفقيه” إلى “الخليفة”!
ولنختتم بملاحظتين: أولاً، أن ظاهرة “التشدد الإسلامي” وسعي رجال الدين المسلمين ”السنّة” للقفز إلى السلطة بدأت في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حينما أقام الخميني نظامه الإستبدادي، وأعطى لعلماء الدين “السنّة” نموذجاً باتوا يسعون لتقليده.
لقد صُدِم العالم بإعلان البغدادي نفسه ”خليفة”. ولكن معظم المعلّقين لم يلاحظوا اللقب الذي تضفيه الوكالات الإيرانية الرسمية وشبه الرسمية على خامنئي، وهو “ولي أمر المسلمين”! خامنئي أيضاً “خليفة”!
وثانياً، أن هذا الجنون “الداعشي” يرتبط حتماً بنقطة أخرى يتابعها “الشفاف” منذ انطلاقته، وهي فشل مشروعات “الإصلاح الإسلامي”. فالإسلام هو الوحيد بين الأديان الكبرى في الشرق الأوسط الذي لم يعرف إصلاحاً جذرياً مثل المسيحية (إصلاح عقائدي وعملي) ومثل اليهودية (إصلاح عملي، أي تطبيقي، أكثر منه عقائدي). وهذه هي “العلّة” في النداء المؤثر الذي وجّهه الملك عبدالله بن عبد العزيز، وفي نقده لعلماء المملكة. الملك السعودي على حق، ولكن هل تصلح الهيئات الدينية السعودية لاتخاذ موقف من التشدد والتطرف الذي رعته، وموّلته، منذ الفورة النفطية؟ (راجع مقال: [بيان “كبار العلماء”السعوديين حول “داعش”: أعماها بدل أن يكحلها!->http://www.shaffaf.net/spip.php?page=article&id_article=29285&lang=ar
](
وهذه كلها مواضيع لمقالات أخرى.
pierreakel@gmail.com