عدتُ للتو من المغرب الشقيق بعد مشاركتي في الدورة 36 لمنتدى أصيلة السنوي التي احتفت هذه السنة بالبحرين كضيفة شرف، فأفردت مساحة واسعة لتعريف الجمهور المغربي بفنون وتراث البحرين ونتاجها الفكري والأدبي، علما بأن مشاركتي هذه كانت بدعوة خاصة من الأمين العام للمنتدى الصديق المفكر محمد بن عيسى، وليس ضمن وفد وزارة الثقافة البحرينية التي لها معاييرها الخاصة لجهة من تختار للمشاركة في المؤتمرات الخارجية.
وللذين يجهلون طابع هذا المنتدى الذي بدأ يتوطد عاما بعد عام رغم ضعف امكانياته المالية، نقول أنه يتميز عن بقية المنديات في أنه لا يحتضن ضيوفه دفعة واحدة وانما على مراحل، بمعنى أنّ من تنتهي مهمته يغادر ليحل محله
آخرون. وكان من نصيبي أنْ اشارك في بداية انطلاق فعاليات هذا الموسم في نهاية الاسبوع الاول من أغسطس.
وهكذا وجدتُ نفسي محشورا بين عدد من المسئولين من أفريقيا السوداء في جلسة حول مفهوم الدولة الوطنية والمخاطر التي تواجهها، إضافة إلى موضوع التكتلات الاقليمية في عالم اليوم وجدواها في خلق التنمية المستدامة وانقاذ الأوطان من الفقر والحروب والتمزق.
ولعل القراء الأكارم الذين يتابعون مقالاتي يعرفون أني لا أتناول الشأن الأفريقي إلا حينما يتقاطع مع الشأن الآسيوي الذي هو مجال تخصصي الأكاديمي، غير أنّ وزير خارجية جمهورية بوركينا فاسو الاسبق “يوسف ودراووغو” الذي كان مشاركا معنا استفزني بالقاء كامل اللوم على ما تعانيه دول القارة السوداء من تخلف وتمزق وحروب داخلية ومذابح بشعة على المستعمر الأبيض.
ومع الاعتراف دون مواربة بأنّ هذا المستعمر الابيض، سواء أكان بريطانيا او فرنسيا او ايطاليا او بلجيكيا، قد نهب ثروات القارة وفتت دولها وأمعن في إذلال شعوبها ودمر هويتها الوطنية، فإنه حمل عصاه ورحل منذ عقود طويلة تاركا مقدراتها في أيدي حكوماتها الوطنية ورموزها الاستقلالية، بل أنه حينما غادرها أورث الأخيرة بنية تحتية لابأس بها كان بالامكان البناء عليها، ونظاما للحكم كان من الممكن ترشيده وصيانته. غير أنّ ما حدث للأسف هو أن حكومات ما بعد الاستقلال راحت تتناحر وتتنافس فيما بينها وتسخر كامل إمكانيات دولها المتواضعة للمصالح الشخصية والفئوية والقبلية، الأمر الذي حرض العسكر على القيام بانقلابات عسكرية متتالية تحت شعار الاصلاح والانقاذ الذي لم يـُترجم إلى واقع وإنما قضى على البقية المتبقية من مفهوم الدولة الوطنية المستقرة. والشواهد على ما نقول أكثر من أنْ يتحمله هذا المقال. فمقاديشو مثلا التي كانت تـُوصف بزهرة أفريقيا ومينائها العطر يوم أنْ جلا عنها الانجليز والطليان في عام 1960 صارت اليوم عاصمة لدولة لا وجود لها، ومرتعا للإرهابيين واللصوص والقراصنة. وليبيريا التي نالت استقلالها في عام 1950 قبل غيرها من شقيقاتها لم تضمد جراحاتها منذ أنْ قام عريف في جيشها يـُدعى “صموئيل دو” بانقلاب على حكومة الرئيس الديمقراطي “وليم تولبرت الإبن” في عام 1980 ليلقى العريف مصرعه بعد وقت قصير وتـُداس رأسه بأحذية زملائه العسكرية الثقيلة أمام كاميرات التلفاز، ولتدخل بلاده نفق حربين أهليتين خلفتا أكثر من ربع مليون قتيل ومليونا من اللاجئين.
وقسْ على ذلك ماحدث في ساحل العاج واثيوبيا اللتين نعمتا باستقرار طويل نسبيا في ظلي الرئيس فيليكس هوفييه بوانييه والامبراطور هيلاسلاسي على التوالي قبل أن ينقلب عليهما العسكر الطامع في السلطة والثروة. وبطبيعة الحال فالصورة تبدو أكثر قتامة في نيجيريا، الدولة النفطية الافريقية الكبرى، التي تعاني من الترهل والفساد والارهاب، وفي جمهوريتي بوروندي وراوندا اللتين شهدتا أكثر المذابح القبلية وحشية في القرن العشرين ما بين قبيلتي التوتسي والهوتو. وإزاء كل هذه الشواهد والتراجعات لم يكن غريبا أنْ يدعو مفكر كيني بارز هو البروفسور علي مرزوقي قبل سنوات إلى إعادة إستعمار القارة السوداء كحل لوقف انحدارها نحو المزيد من الخراب والدمار.
وعليه فإن ما قاله الوزير البوركيتي في منتدى أصيلة لم يكن سوى مكابرة وتهرب من محاسبة الذات والاعتراف بالمسئولية، وإلا ماذا نقول عن دول آسيا التي تعرضت للنهب والاستغلال على يد المستعمر الابيض ذاته، وربما بقدر أكبر، لكنها فاجأت العالم بإمتلاك حكوماتها الوطنية وزعمائها الاستقلاليين لرؤية صائبة وفكر مستنير مهدتْ الطريق أمام نقل أوطانهم إلى آفاق الرخاء والتنمية والنهضة والاستقرار حتى باتت هذه الأوطان منارة يسترشد بها الآخرون في مختلف المجالات.
واذا ما أتينا لموضوع التكتلات الاقليمية نجد أنّ دول القارة السوداء لم توفق أيضا في الارتقاء بمنظمة الوحدة الافريقية التي لها من العمر اليوم اكثر من نصف قرن ــ تأسست في أديس أبابا في يوليو 1963 ــ إلى تكتل اقليمي فاعل، وكان كل ما فعلته هو أن غيرتْ إسمها في مايو 2002 إلى الاتحاد الافريقي، في الوقت الذي نجد فيه تكتل آسيان الذي يضم دول جنوب شرق آسيا والهند الصينية يسير بخطى وثابة نحو تحقيق التكامل الاقتصادي على غرار دول الاتحاد الاوروبي على الرغم من وجود بعض التباينات السياسية بين أعضائه العشر، وعلى الرغم من ظهوره على السطح في عام 1967 أي بعد منظمة الوحدة الافريقية بأربع سنوات.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي
Elmadani@batelco.com.bh