إنّ نظام القذّافيّ قد انتهى إلى غير رجعة، وإنّ القذّافي قد مات وحقّ القول على أسرته، فمنهم من وقع في الأسر، ومنهم من قضى نحبه، وتشرّد الباقون في المنافي. أمّا عن اللّيبيّين الذين كانوا معه وتسمّونهم “الأزلام”، والقبائل الكبرى التي لم تشارك أو تأخّرت في المشاركة في الثّورة، فهم مواطنون مثلكم، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. إنّ محاولة إقصائهم، ومعاملتهم بدونيّة المهزوم وسنّ التّشريعات الظّالمة ضدّهم مثل قانون العزل السيّاسيّ ممّا أجّج وسيؤجّج الحرب الأهليّة المستعرة، وقد يقسّم الوطن ويشظّيه، ويطيل أمد النّزاع المسلّح. أمّا كلّ من ارتكب جرائم ضدّ الأشخاص والممتلكات، فيجب تقديمهم للقضاء بعد بناء الدّولة، لا قبل ذلك. وتشمل هذه المحاسبة من كانوا من أعوان النّظام السّابق ومن ارتكب جرائم في ما بعد 17 فبراير من محاربين ورجال سياسة.
أمّا عن الثّورة والثّوّار وكلّ الشّعارات التي أصبحت ذريعة للسّيطرة على المجتمع، فيجب أن تعلموا أنّ الثّورة ما هي إلاّ حالة من الفوضى للخروج عن القوانين والأعراف المرعيّة، وهي ضرورة مؤقّتة للإطاحة بنظام سياسيّ فقد شرعيّته لدى الجماهير. إلاّ أنّ هذه الفوضى يجب أن تنتهي فور سقوط النّظام لتبدأ مرحلة بناء المجتمع والدّولة على أساس الأهداف والغايات التي تنشدها الجماهير الثّائرة. فإذا حدث واستمرأ البعض هذه الحالة من الفوضى، مثلما يحدث اليوم في ليبيا، فيجب أن نسمّيها “فوضى” لا ثورة.
أمّا عن الثوّار الحقيقيّين فهم أولئك الذين وضعوا سلاحهم بعد نجاح الثّورة في اجتثاث النظام المثور عليه وولجوا مرحلة البناء. وأمّا من يطلق على نفسه صفة “الثّائر” ويحمل السّلاح ليقاتل أبناء وطنه ويساهم في الفوضى، فهو ينتمي إلى زمرة أمراء الحرب وتجّارها، وزعماء العصابات الإجراميّة المنظّمة.
إنّ الانتقال من الثّورة الضّروريّة إلى الفوضى المستدامة، أو من الإنسان الثّائر إلى الإنسان الذي يمتهن القتال ويرتزق منه، هو ما أوصلنا إلى الحالة التي نحن عليها اليوم. لذلك فإنّنا نستطيع أن نقرأ البانوراما العامّة في ليبيا على هذا النّحو:
1) دخول البلاد في حرب أهليّة وبأجندات أجنبيّة وإيديولوجيّة هدف قياداتها إنشاء دكتاتوريّة جديدة تملأ الكرسيّ الشّاغر للدّكتاتوريّة السّابقة.
2) لقد نهبت الأموال العامّة والخاصّة، ودمّرت البنى التّحتيّة والمؤسّسات.
3) لقد دخلت في هذه الحرب الأهليّة شرائح من المجتمع كان يفترض حيادها مثل دار الإفتاء، وعلى رأسها الشّيخ الصّادق الغريانيّ الذي قال بأنّ هذه الحرب الأهليّة بين الحقّ والباطل، وأنّ موتى أنصاره سيدخلون الجنّة وموتى مخالفيه سيدخلون النّار.
4) لقد تمّ قتل واغتيال الآلاف من المواطنين من قبل مجموعات ترفض فكرة الدّولة وتكفّر من ينادي بالدّيمقراطيّة، وتخرج من الملّة كلّ من يقول إنّ الشّعب هو مصدر الشّرعيّة.
5) أصبحت ليبيا وكرا للعصابات الإجراميّة التي تتاجر في الأسلحة والمخدّرات أو الهجرة غير الشّرعيّة، أو تهاجم المصارف وتنهبها أو تختطف الأطفال والشّبّان من أجل الفدية. وقد تأثّرت بذلك كلّ دول الجوار وكذلك دول البحر الأبيض المتوسّط وإفريقيا.
6) وصل الحال بالشّعب الذي كان يطالب بالحرّيّة والتّنمية المستدامة إلى الاكتفاء من كلّ طموحاته بالأمن بسبب أفعال المجرمين وأمراء الحرب الذين حوّلوا أحلامه إبّان الثّورة إلى كوابيس بفعل العنف.
7) نرى الجميع يطالبون بإقامة الدّولة ولكن كلّ يريدها على مقاسه ووفقا لإيديولوجيّته، ويرى في الآخر الذي يحمل فكرة مختلفة عن الدّولة شبح عدوّ يجب الإجهاز عليه بقوّة السّلاح، وبذلك يساهم الكلّ في إذكاء أوار الحرب الأهليّة التي يغذّيها الاصطفاف القبليّ والإيديولوجيّ والنّفعيّ، إلى درجة عدم الاعتراف بشرعيّة صناديق الاقنراع وعدم الامتثال إلى السّلطة النّابعة من إرادة الشّعب.
8) في المشهد اللّيبيّ المروّع لا نرى إلاّ مدنا ضدّ أخرى، وقبائل ضدّ قبائل، وأحزابا ضدّ أحزاب، كلّها تمتشق السّلاح وتستعدّ لإطلاق النّار مع بداية أيّ اختلاف في الرّأي أو المصلحة.
هذه هي البانوراما العامّة لليبيا اليوم، والسّؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن لهذا الشّعب الذي تفرّق إلى هذا الحدّ وسالت بينه أنهار الدّماء، هل يمكن له بقوّته الذّاتيّة أن يلملم شمله ويتناسى جراحاته ويكتم أحقاده ويقيم دولة وطنيّة للجميع على كامل التّراب الوطنيّ، وأن ينشئ مؤسّساتها ويمتثل لقوانينها؟
القراءة الموضوعيّة للأحداث تجيب بالنّفي القاطع لتحقّق هذه الإمكانيّة بدون مساعدة أمميّة أو دوليّة أو إقليميّة أو كلّها مجتمعة. هذه المساعدة لا يمكن أن تكون من خبراء لا يملكون إلاّ النّصح والمشورة، بل لا بدّ من تدخّل أمميّ يملك القوّة المسلّحة التي تستطيع إرغام كلّ الفرقاء على الجلوس على مائدة التّفاهم والحوار بعد تجريدهم من السّلاح الذي يتحاورون به اليوم. أمّا أولئك الذين يعتبرون أنّ تدخّل الجامعة العربيّة ومنظّمة الوحدة الإفريقيّة والأمم المتّحدة مرفوض لأنّه ينال من سيادة ليبيا، فيجب أن يسألوا أنفسهم إذا كانت ما تزال ثمّة سيادة في ليبيا يمكن انتهاكها.
إنّ البديل عن تدخّل المنظّمات الدّوليّة لمساعدة ليبيا بتجريد المتقاتلين من سلاحهم وإنشاء مؤسّسات الدّولة وقيام الجيش والشّرطة سيكون تدخّل الدّول منفردة في الشّأن الليبيّ كلا حسب مصالحه أو مطامعه، سواء كان ذلك من دول الجوار أم من الدّول المتضرّرة من الحالة اللّيبيّة، وربّما تكون هذه الدّول من وراء البحر. وإنّ كلّ الذّرائع لهذا التّدخّل قد أوجدها الشّعب اللّيبيّ على أرضه، وبسلوك من اختارهم لإدارة أزمته الوجوديّة.
يجب أن يعلم الجميع أنّ ليبيا التي يمتدّ ساحلها على ألفي كيلومتر من البحر الأبيض المتوسّط، وتحدّ ستّ دول عربيّة وإفريقيّة وتبعد على مرمى صاروخ قصير المدى من أوروبّا، وتمتلك مخزونا من النّفط والغاز، ليست الصّومال التي تركت وشأنها تتقاتل على امتداد عقود. ولذلك ليس أمامها غير خيارين لا ثالث لهما : إمّا التّدخّل الأمميّ بأجندة وطنيّة، وهو تدخّل سيساهم في إعادة بناء الدّولة الوطنيّة، أو التّدخّل المنفرد للدّول الطّامعة أو المتضرّرة ممّا يحدث على أرضها بكلّ ما يحمله هذا السيّناريو الكارثيّ من مخاطر.