مرة أخرى تتحرك العجلة السياسة من أجل قضية إنماء طرابلس وإعادة تفعيل دورها الإقتصادي المتعثر. هذه المرة تتحرك المركبة السمتقبلية وبرعاية فؤاد السنيورة الذي يبدو أنه “مولع” بمدينة طرابلس ولطالما بادر من أجل عقد مؤتمرات ولقاءات وتجمعات تتعلق بإنماء المدينة. وبغض النظر عن ما تضمنت وأنتجت هذه المبادرات، فإنني لا أشك بالرغبة الصادقة عنده وعند رفاقه بالعمل من أجل إنماء المدينة التي أصبح معروفاً بأنها تدفع أثمان كل الأزمات الداخلية والإقليمية بالعملة الأصعب.
وكان الهجوم المستقبلي قد انطلق منذ بضعة أشهر في مؤتمر عقدته قوى 14 آذار لدعم قضايا الأمن والإنماء في المدينة، خصوصاً أنها شهدت في سنة 2013 و بداية 2014 المرحلة الأخطر من الإعتداءات والتدهور الأمني والإقتصادي والإجتماعي والبيئي لدرجة الفوضى التي قاربت الإستباحة، مما هدد نسيجها الإجتماعي بمزيد من التمزق. وقد ضاعف من وتيرة هذا التدهور، وقوعها على تماس مع الفالق السوري المتحرك على الدرجات العالية من مقاييس ريخترالثورية والسياسية والجيوسياسية وربما السوريوسياسية(من سوريالي وليس سوري).
أتى هذه اللقاء الذي سمي “ورشة العمل لابراز قدرت طرابلس” في ظرف سياسي و أمني مؤات نسبيا، خصوصاً أن المدينة تشهد منذ فترة هدوءا أمنيا بعد تشكيل حكومة ربط النزاع و تعبئة فراغ المرحلة الإنتقالية، والتي يعلم الله وحده إلى أين ستنقلنا بعد تحرك معظم الفوالق في المنطقة العائمة على النفط والغاز والتاريخ، وآخرها الفالق العراقي الذي لم يهدأ أصلاً منذ أن أطلقت الثورة الإيرانية حممها في كل الإتجاهات، محركة كل الفوالق، خصوصا الفوالق الدينية والمذهبية.
مهّد منظمو ورشة العمل بإطلاق البدء بتفيذ مشروع تجميلي لشارع سوريا بهبة من سعد الحريري، سيكون له، على أهميته، طابع رمزي، رغم الحركة الإعلامية و السياسية التي رافقته. ذلك أنه ورغم التأييد التلقائي لأية خطوة إنمائية ذات طابع خيري وخصوصا في هذا الشارع، فإن أحدا لا يظن أن مسكّن الأوجاع يشفي من مرض، خصوصاً إذا كان المرض مزمناً. فمنطقة التبانه وبعل محسن والمناطق والأسواق المحيطة بها هي مناطق منكوبة على كل المستويات ويتأرجح شبابها البائس والمحبط بين حدي التطرف والتفكك ما يحوله فريسة للمتربصين شرا بالبلد والمدينة.
وبالعودة لورشة العمل، فقد بدأت كالعادة بإبراز الموقف السياسي لأصحاب الدعوة قبل أن تكر سبحة الطروحات من قبل المشاركين ومعظمهم من رؤساء الدوائر والمرافق الرئيسية في المدينة، فضلاً عن بعض أهل الإختصاص كالوزيرة الحسن ومدير عام أوجيرو وإختصاصي في النفط والغاز. وإذا نرى إيجابية إجمالية لهكذا لقاء ورمزية انعقاده بالمبنى الزجاجي لنقابة المهندسين والذي يشكل مظهراً من مظاهر التحديث المعماري في المدينة، فإننا نسجل أيضاً الملاحظات التالية:
أولاً: طرابلس مدينة ذات تاريخ عريق، وهي وإن كانت مأزومة، فإنها تمتلك قدرات كامنة تهيئها، إذا ما أحسن استخدامها، لأدوار مهمة في مراحل الإعمار اللاحقة فيها وفي جوارها.
ثانيا: لقد بدت مساهات معظم المنتدين من مسؤولي المرافق والمؤسسات العامة أقرب إلى إظهار المعاناة من طرح رؤيا استراتيجية، تأخذ بالإعتبار المتغيرات الإقتصادية ودور المدينة اللاحق في المنطقة خصوصاً في الجوار الإقليمي. وربما لا نستطيع لومهم كثيرا نظراً لمعاناتهم من المركزية والتهميش وضيق الحال.
ثالثاً: لم تأخذ المنطقة الإقتصادية الخاصة، التي أصبحت لازمة كل مؤتمر ولقاء وورشة عمل، حظها في الشرح، خصوصا أن البعض يخلط بينها وبين المنطقة الحرة، وقد أقرت في البرلمان في اعقاب اتفاق الدوحة بالتوازي مع الموافقة على القرض الميسر من بنك التنمية الإسلامي لمباني الهندسة والفنون في المون ميشال. علما أن مجلس إدارتها لم ير النور حتى كتابة هذه السطور، مع أنه يعول عليها كأهم محفز اقتصادي للقطاع الخاص والإستثمارات الخارجية، حيث ستفتح آفاقاً لفرص عمل كثيرة ما أحوج الطرابلسيين اليها. كما أن مباني الهندسة والفنون لم تسلم بعد بسبب تعثر الشركة الملتزمة ما يرفع منسوب الإحباط عند الطرابلسيين والشماليين عموما.
رابعا: شكل طرح د. عبد المنعم يوسف رؤية استراتيجية اقتصادية جديدة تقوم على التكنولوجيا الناعمة(soft (technology مشيراً إلى حوافز تشجيعية كثيرة، أهمها وجود مخارج الألياف البحرية في طرابلس ورغبات شركات البرمجة بالإستفادة من “اتوستراد المعلومات” والإستثمار في المدينة إذا ما هيئت البنية التحتية الملائمة، قارئاً في كثير من المرافق بما فيها المعرض والمنطقة الإقتصادية لتناغم مع بساتين فيحاء جديدة تقوم على زراعة فواكه وورود التكنولوجيا بالدرجة الأولىٍSillicon gardens)).
ويشكل وجود جامعات كثيرة في الجوار حوافز إضافية، خصوصا إذا ما جرى الإسراع في استكمال المدينة الجامعية وبناء مراكز الأبحاث والتكنولوجيا فيها. وهذا لا يعني بالطبع إغفال القدرات الصناعية والتجارية والسياحية للمدينة وأهمية وجود النفط والغاز في بحرها.
خامسا: لقد عبرت بعض مداخلات ناشطي المجتمع المدني عن ضيق الصدر، عاكسة حجم الإحباط من قلة المشاريع وسوء إدارتها وضعف الإدارة والإرادة السياسية عموما في المدينة، وقد استدرجت هذه المداخلات ردودا من نفس النوع كادت تطيح بالإيجابية النسبية التي تمخضت عن اللقاء. ولا أحد يلوم هؤلاء الناشطين على النفخ في اللبن بعد أن كواهم الحليب وترك ندوبا عميقة في ثقتهم ومقارباتهم، ولكن ليس في عزيمتهم.
سادسا: من حق اي قوة سياسية وربما من واجبها إطلاق ورشات عمل متلاحقة حول قضايا المدينة ولهذه الورشات إيجابيات دائمة، إلا أننا نلفت النظر للنقاط التالية.
أ- في ظل الانقسامات السياسية والفئوية والمناطقية الحادة، تميل الجهات المنظمة عادة لإبراز الجانب
الدعائي على الجانب العلمي ما يخفف من قيمة النتائج مهما كان الشكل الذي ستدبج فيه المقررات خصوصاً حين نكون أمام انتقال من واقع حكومي إلى واقع حكومي آخر.
ب- مع مشروعية إبرازجوانب عامة معينة، إلا أن النقاش العلمي والموضوعي لقضايا إنمائية بشقيها التقني والعملي يتطلب إختصاصيين طرحاً ومناقشة، ما يستدعي ضرورة تعيين الحدود الفاصلة بين السياسي والمدني والمهني، علما أن مستوى الإحباط وعدم الثقة يدفع البعض إلى تفضيل العمل الصامت والمترافق مع ورشة البدء بإزالة التعديات والتشويه من الشوارع والأرصفة والجدران ومن معظم العقول في الإدارات والبلديات.
ج- بالنظر لحجم الأزمة الإقتصادية واستطرداً الاجتماعية الخاصة في المدينة والتي تغذت من كل الأزمات، نرى ضرورة ابتداع وسائل التعاون بين جميع المكونات السياسية، ذلك أن قضية الإنماء في المدينة و الشمال تتطلب إيجاد وتوسيع المساحة المشتركة بين الجميع، وهذا ما تنبه له مبادروا مشروع البناء الجامعي الموحد، فعملوا على إيجاد أوسع تمثيل وإدارة شبكة علاقات متوازنة اتسمت بالمرونة والإستقلالية في آن، فاستطاعوا، وإن بصعوبة، أن يجتازوا حقول الألغام السياسة وحتى الأمنية، ومع أن المشروع ما زال بعيدا عن الإكتمال، إلا أنه قطع أشواطاً كبيرة رغم كل ما مر على البلد والمدينة من هزات.
ونعتقد أنه مهما حسنت النيات عند القوى السياسية المتبدلة، بما فيها القوى السيادية التى تحاول منع انهيار البلد، فان الخوف من أن تعيقها الظروف والصراعات السياسية، خصوصاً أن هذه القوى تحكمها علاقات وشروط ومحاصصات فئوية ومذهبية بحكم تكوينها، ما يعني أنه على قوى المجتمع المدني الواسع، وخصوصا منوعاته العلمانية والديمقراطية وأصحاب السوابق اليسارية، أن تنتقل إلى المبادرة حيث يمكن، والتعاون الحذر ولكن البناء مع الفعاليات والقوى السياسية حيث يجب، وممارسة الضغوط الديمقراطية دائما من أجل الدفع قدما بالقضايا الإنمائية والإجتماعية والصحية والإقتصادية والإدارية والبلدية والأكاديمية والتربوية والبيئية، وخصوصا في المناطق المنكوبة التي ستظل بحاجة إلى رعاية خاصة من الدولة أساسا والقطاع الخاص والمجتمع المدني، نظرا للندوب المغروزة على البشر والحجر معا، مستفيدين ما أمكن من “فترة السماح الأمني” الذي أمنته التوازنات الانتقالية الجديدة، والتي يمكن أن تتغير شروطها مع الزلازل والهزات الإقليمية.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس