بدا لي حينما قرأت سيرة أتاتورك أنه، ربما، كان ناقماً على الله لأنه لم يخلقه ”أوروبياً”، وبالأحرى ”فرنسياً يعقوبياً” بالذات! ولكن عبقرية أتاتورك الشخصية لا ينبغي ان تحول دون ملاحظة أن تركيا في لحظة صعود أتاتورك كانت تعيش هاجس ”الإندثار” كدولة، وحتى كشعب! كما هو حال العرب الآن؟ عرب ”الطوائف”، وانهيار ”الدول”، واستدعاء (واستجداء) التدخلات الخارجية و”الهيمنة” الخارجية أيضاً!
يأخذ كثير من العرب على أتاتورك علاقته السلبية بالإسلام، وفرضه الحرف اللاتيني (الأوروبي) على الأتراك. ونادراً، وللعجب(!)، ما يأخذون عليه ديكتاتوريته! بالنسبة للإسلام، قرأت اليوم في جريدة ”الفيغارو” الفرنسية مقابلة مفيدة مع ”الشيخ” راشد الغنوشي (الذي لا أثق بـ”تحوّلاته”!). يسأله الصحفي الفرنسي: هل يمكن أن يتوافق الإسلام والديمقراطية”؟. فيجيب الغنوشي: “بدون أدنى شك. فالدولة تستقي شرعيتها من مواطنيها وحدهم. وليس من الدين”!
ويضيف “شيخ الإسلام” الغنوشي أنه “كان للبورقيبية حسناتها وسيئاتها، وبين حسناتها النظام التعليمي، والنظام الصحي، وأحوال المرأة”!! هل تحوّل الغنّوشي “أتاتوركياً”؟
بالنسبة لفرض اللغة اللاتينية بدل الحرف العربي، فالموضوع يستحق التوقّف عنده باكثر من الإستهجان العربي المعهود لـ”خيانة أتاتورك” للحرف العربي: فـ”اللغة العربية”، هذه التي تقرأها الآن، ليست لغة أي شعب من الشعوب العربية. أي ليست “لِسان” أي شعب عربي! العرب يعيشون حالة يسميها اللغويون ”ديغلوسيا”، أي إزدواجية بين لغة تُعتبر ”راقية” تم تثبيت قواعدها قبل أكثر من ألف سنة، وتستخدم للكتابة (وأضيفت إليها الإذاعات والتلفزيونات)، ولغات ثانية ينظر إليها بقدر من ”الإحتقار”، هي اللغات العامية التي تقترب كثيراً أو قليلاً عن اللغة ”الكلاسيكية” ولكن يستحيل أن تتطابق معها في أي بقعة أو زمان!
والسؤال هنا: إلى أي حد تلعب هذه ”الإزدواجية” دوراً في انتشار ”الأمّية”، التي تتراوح، حسب التعريفات، بين ٥٠ و٨٠ بالمئة في المنطقة العربية؟ العربي مضطر أن يتعلّم ”لغته”.. لكي ”يتعلّم”!
ثم، هل لاحظ أحد أن حوالي ٢٠ بالمئة من العرب أصبحوا الآن ”مهاجرين” إلى أميركا وأوروبا الغربية والشرقية، وأوستراليا، وحتى إفريقيا؟ وأن الجيل الثاني والثالث والربع من ”المهاجرين” يصبح ”أمّياً باللغة العربية المكتوبة”، حتى لو ظل يتذكر بعض العربية ”الدارجة”؟ أي أن العربية ”الفصحى” تسير نحو ”الإندثار” في المهاجر؟
لا أعرف كيف ستتطوّر ”العربية” و”العربيات” المستخدمة للحديث اليومي، ولكن بعض نَثر مارون عبّود، وقصائد نزار قبّاني ”النثرية” (ومن لحقوه)، تستحقّ النظر والتقييم من هذه الزاوية.
بيار عقل
*
لماذا ضلّ الربيع العربي طريقه؟
كنت مشدوهاً بـ”الربيع العربي”،
حينما اغرق المصريون ميدان التحرير في القاهرة بمظاهراتهم. ومثل غيري، كتبت مؤيداً لتلك الحركة. إلى أن حذّرني ديبلوماسي تركي مخضرم قائلاً: “لا تتعجّل باستنتاجاتك! الأمور تبدأ دائماً بدايةً حسنة في الشرق الأوسط، وسط آمال كبيرة ونوايا حسنة، ولكن دعني أقول لك شيئاً عن الناس هنا: إنهم يفسدون ما قاموا به.. أجلاً ام عاجلاً. فهم غير قادرين على القطيعة مع
ماضيهم”.
وكان على حق. فقد أفسدوا كل ما قاموا به، في كل واحدة من حركاتهم. وفي الفصل الثاني، صارت الأمور أكثر سوءاً في مصر، وفي ليبيا، وفي سوريا، والآن في العراق. لقد ضلّ الربيع العربي طريقه.
وأول استنتاج أصل إليه الآن هو التالي: لم تحدث قطيعة بنيوية مع الماضي. الماضي ما زال موجوداً، وما زال يلقي بثقله على تفكيرهم. بالتالي، لا جديد على الجبهة الجنوبية (تقع تركيا شمال المنطقة العربية- الشفاف). إن الخلل التاريخي للمنطقة ما يزال ”حيّاً يُرزَق”. إنهم يعيشون في الماضي، بل ويعتبرون ذلك طبيعياً!
فكّروا بأحوال المنطقة الآن. هنالك نوعان من البلدان: البلدان التي حقّقت قطيعة بنيوية مع الماضي، والبلدان غير القادرة على تحقيق تلك القطيعة. تقع تركيا ضمن المجموعة الأولى. أما العراق وسوريا فهي ضمن المجموعة الثانية.
في مطلع القرن الماضي، كانت الطموحات متشابهة في جميع المراكز المدينية الكبرى في الإمبراطورية العثمانية. سواءً القاهرة، أو بيروت، أو دمشق، أو بغداد، أو استانبول. ولكن القطعية المَعرِفيّة (“الإبستمولوجية”) لم تحصل سوى على ضفاف البوسفور. لقد انطلقنا من انقطاع بنيوي واضح مع الماضي، بينما عجزوا ”هُم” عن تحقيق ذلك الإنقطاع. وأنا شخصياً أعتقد أن الإنقطاع الذي تحقق في تركيا كان انقطاعاً من النوع الذي عرضه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار- إنقطاع مع النمط الكامل ومع الإطار المَرجعي للقديم، وبناءً لنظامٍ جديد مع إطار مَرجعي جديد بالكامل.
لماذا تظلّ تركيا الدولة الوحيدة التي تملك قانوناً لـ”الأحوال الشخصية” في المنطقة؟ هذا ما أقصده حينما أتحدث عن قطيعة مَعرفية. كانت القطعية عملية سياسية، ولا مفرّ من الإعتراف بأنها كانت مؤلمة. ولكنها حصلت، بفضل العبقرية السياسية لمصطفى كمال أتاتورك، وكذلك لأن الأتراك ورثوا المؤسسة الوحيدة التي كانت فاعلة في الإمبراطورية التركية في ذلك الحين: الجيش.
أما استنتاجي الثاني فهو: أن التجرية التركية في القطيعة المَعرفية مع الماضي لم تكن قابلة للتكرار لاحقاً في المنطقة كلها. أما ”لماذا؟”، فهذه مسألة نتركها ليومٍ آخر! مع ذلك، إسمحوا لي بملاحظة أنه كان يمكن البدء بها عبر علاقة الأسدـإردوغان القديمة. ويقع الإخفاق هنا على عاتق تركيا وليس دمشق!
إستنتاجي الثالث من تخبّط تجربة الربيع العربي هو التالي: أن تركيا لم تَقُم بقطيعة واضحة مع الماضي مرةً واحدة، بل عدة مرات!
فلم نكتفِ بقطيعة مَعرفية مع الماضي في مطلع القرن العشرين، بل واتخذنا قرار التحوّل الإقتصادي في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ثم اتخذنا قرار التحوّل السياسي في بداية العام ٢٠٠٠. واستنتاجي هنا هو التالي: أن تركيا كانت قادرة على نفض نظامها كله ليس مرة ً واحدة، بل ثلاث مرات خلال أقل من ١٠٠ سنة. هذا إنجاز.
ليس هنالك ”ركود” في آسيا الوسطى، بل تغيّر متواصل. إن تركيا تملك مستوى عالياً من القدرة على التكيّف. لقد امتلكت تركيا القدرة على تقبّل القطيعة المعرفية ليس مرة واحدة، بل ثلاث مرات، في حين لم يحقّق الآخرون حتى قفزة واحدة إلى الإمام!
لقد أفعَمَني “الربيع العربي” بالآمال في بدايته. ولكن من الواضح أنه لم يحمل معه وبقوة فكرة القطيعة البنيوية مع الماضي. آسف، إذا لم يكن باستطاعتك أن تقدّم تعريفاً لنظامٍ جديد، فإنك ستتراجع حتماً إلى النظام القديم، أي إلى النقطة التي انطلقت منها في القرن الماضي وهذا ما يحدث ف العراق وفي سوريا في هذه اللحظة بالذات.
نقلاً عن “حريّة” التركية، يمكن قراءة النص بالإنكليزية على الرابط التالي
*
من الويكيبيديا:
يعدّ غاستون باشلار
(1884 – 1962) واحداً من أهم الفلاسفة الفرنسيين ، وهناك من يقول أنه أعظم فيلسوف ظاهري ، وربما أكثرهم عصرية أيضاً . فقد كرّس جزءاً كبيراً من حياته وعمله لفلسفة العلوم ، وقدّمَ أفكاراً متميزة في مجال الابستمولوجيا حيث تمثل مفاهيمه في العقبة المعرفية والقطيعة المعرفية والجدلية المعرفية والتاريخ التراجعي مساهمات لا يمكن تجاوزها بل تركت آثارها واضحة في فلسفة معاصريه ومن جاء بعده.
لماذا ضلّ الربيع العربي طريقه؟
“أن التجرية التركية في القطيعة المَعرفية مع الماضي لم تكن قابلة للتكرار لاحقاً في المنطقة كلها. أما ”لماذا؟”، فهذه مسألة نتركها ليومٍ آخر!”
متى يا حبيبنا محرر الشفاف؟ نريد أن نعرف.. أتمنى أن لا يضيع السؤآل بلا جواب من نفس الكاتب..
أما تعريف الفيلسوف بلاشر فهو مكتوب بلغة أكاديمية لا يفهمها الا الله وكاتب التعريف. أذ كان يجدر توضيح القطيعه حسب بلاشر وكيف انها تنطبق على القطيعه التركية مع الماضي..