شهد حفل تنصيب “رانيندرا مودي” كرئيس للحكومة الهندية الجديدة، بعد اكتساب حزبه والمتحالفين معه نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة بصورة لم تعرفها الهند منذ عام 1984، مفاجأة غير متوقعة تمثلت في مشاركة رئيس الحكومة الباكستانية “نواز شريف” الذي يعتبر أول زعيم باكستاني يحضر مثل هذا الحدث منذ انفصال باكستان عن الهند البريطانية في عام 1947.
وقد بدا من الحفاوة التي استقبل بها الزعيم الباكستاني والاجتماع الذي عقده مع نظيره الهندي الجديد، الذي أفصح عن رغبته في زيارة باكستان قريبا، أن نيودلهي تود إرسال رسالة إطمئنان إلى جارتها بأن وجود “بهاراتيا جاناتا” في السلطة في الهند ليس مدعاة للخوف والفزع، رغم كل ما قيل ويـُقال عن نزعتها القومية المتشددة وكل ما صدر عن قادتها أثناء الحملات الانتخابية من مواقف متصلبة ضد المسلمين والباكستانيين، وأن الحزب الجديد الحاكم في الهند يهدف إلى تثبيت أقدامه في السلطة من خلال الارتقاء بالشأن الأقتصادي وليس من خلال اللعب بعواطف الجماهير الهندوسية المعادية لباكستان واستدعاء جراحات الحروب التي خاضاها البلدان ضد بعضهما البعض. والجزئية الاخيرة هي ما يدعو إليه “شريف” أيضا الذي صرح مرارا من أنه لا يوجد ما يحول دون منح الهند الصفة التفضيلية في المبادلات والمعاملات.
وبطبيعة الحال فإنه لو صحت هذه الرؤية فإنها تصب بالدرجة الأولى في مصلحة الباكستانيين الذين هم أحوج ما يكونوا اليوم إلى فترة من الهدؤ والتعاون الاقتصادي والتجاري مع جارتهم اللدودة من أجل تخفيف المآزق الاقتصادية الكثيرة التي تكاد تخنقهم.
لقد أثبتت التجارب أنه حينما يكون الحزبان الحاكمان في أي بلدين متنازعين يتمتعان بالقوة الجماهيرية ويستحوذان على أغلبية برلمانية واضحة، فإن بامكانهما صنع السلام المستحيل. وهذه الحالة تنطبق الآن على الهند وبدرجة أقل على باكستان. ونقول “بدرجة أقل” ليس فقط لأن حزب الرابطة الإسلامية الذي يقوده نواز شريف لا يملك أغلبية برلمانية كبيرة تتيح له إتخاذ القرارات الصعبة، وإنما أيضا لأن بلده عــُرف على الدوام بقوة ومكانة مؤسسته العسكرية في الحياة السياسية، بمعنى أن الأخيرة قادرة على إحباط أي سياسة أو قرار تتخذه النخب المدنية الحاكمة إذا لم يعجبها، وذلك من خلال الإنقلاب على الدستور على نحو ما حدث مرارا منذ عام 1947.
دعونا لا ننسى أن أكثر فترات التقارب ما بين الجارتين اللدودتين ســُجلت في الحقبة التي كانت الهند فيها في عهدة “بهاراتيا جاناتا” بقيادة رئيس الحكومة الأسبق “أتالي بيهاري فاجبايي”، وكانت الباكستان فيها تدار تحت قيادة نواز شريف. ففي تلك الحقبة سجل البلدان تقدما ملحوظا في علاقاتهما الثنائية من خلال ما ســُمي وقتذاك بـ”دبلوماسية الحافلات”، وذلك في إشارة إلى انتقال فاجبايي من نيودلهي إلى لاهور في فبراير 1999 ــ لعقد قمة مع شريف ــ بواسطة الحافلات، مدشنا بذلك خط السفر البري المعروف بـ”صداي سرْحد” أي نداء الحدود، ومنهيا عقودا من القيود المشددة حول إنتقال موطني البلدين برا والتي بدأت في عام 1947. وكان بالامكان أن تترجم بنود الاعلان المذكور إلى واقع يخدم البلدين والشعبين لولا لجوء العسكر من ذوي النزعة الانتقامية بالتحرش بقوات حرس الحدود الهندية في صيف 1999. فكانت حرب مرتفعات “كارغيل” التي انتصر فيها الهنود كعادتهم. لاحقا، وكما هو معروف، قام قائد الجيش الجنرال “برويز مشرف” بالتخلص من “شريف” عبر الانقلاب عليه ونفيه، فدخلت علاقات البلدين مجددا مرحلة حرجة مع نذر يسير من الانفراج يوم أن قام مشرف بزيارته التاريخية في عام 2001 إلى مسقط رأسه في بلدة أجمير القريبة من مدينة أغرا الهندية، حيث يوجد ضريح الخواجة “معين الدين حسن تشيشتي”، أحد أشهر أولياء الصوفية في شبه القارة الهندية وأكثرهم ذكرا وتبجيلا وإحاطة بالأساطير، وبالتالي وصفت رحلة مشرف ومباحثاته مع نظيره فاجبايي بـ”دبلوماسية زيارة أضرحة الأولياء”.
واذا كانت العلاقة مع إسلام آباد هي أحد ملفات السياسة الخارجية التي تحظى باهتمام القيادة الهندية الجديدة، فإن الملف الآخر هو الخلافات الحدودية مع الصين التي لم تطوَ صفحتها نهائيا ـ في ظل اصرار بكين على الاحتفاظ بنحو 90 ألف كيلومتر مربع من الأراضي الهندية في القطاع الشمالي من جبال الهملايا التي غنمتها في حرب عام 1962 ــ كي يتمكن البلدان من الشروع في تعاون مثمر يعود بالخير عليهما معا.
وفي هذا السياق هناك إعتقاد بأن “مودي” سينفتح على الصين أكثر من كل أسلافه إنطلاقا من إعجابه بالنموذج الاقتصادي الصيني، وبالتالي حرصه على الاستفادة القصوى من هذا النموذج تطبيقا وتطعيما ببعض ما لا يتوافر للصينيين ــ ولكنه ميزة تفضيلية للهنود ــ مثل اللغة الانجليزية ومناخ الحريات القادر على الابداع والمنافسة. ولعل دعوته السريعة للزعيم الصيني “شي جينبينغ” لزيارة الهند تصب في هذا الإطار، خصوصا وأن “مودي” أعلن مؤخرا أنه سوف يركز على تطوير الطرق والمطارات والبنية التحتية في المناطق الشمالية الشرقية النائية المحاذية للصين بعدما فشل حزب المؤتمر المهزوم في تحقيق ذلك. بل قام مودي بالتزامن بتسمية الجنرال المتقاعد ف. ك. سينغ، المقرب منه، كوزير إتحادي مسئول عن تنمية المناطق المذكورة.
على ان طموحات مودي باستثمار الصداقة مع الصينيين في تحقيق ما وعد به شعبه من رخاء ومعدلات نمو مرتفعة كتلك التي حققها اثناء قيادته لولاية غوجرات، قد يصطدم بالاستراتيجية الصينية القائمة على الفصل ما بين مسائل التعاون الاقتصادي ومسألة السيادة على الأراضي، وهي استراتيجية وضعها زعيم الانفتاح الصيني “دينغ هسياو بينغ”، وربما صار خلفاؤه أكثر تشددا الآن حيالها بفعل ما بلغته بلادهم من قوة وهيبة ومكانة عالمية. ثم أن هناك عائق آخر أقل أهمية هو إهتمام مودي بتوثيق علاقات الهند باليابان التي بينها وبين الصين نزاعات تاريخية وسيادية وتنافس اقتصادي وجيوسياسي. وينبع اهتمام مودي باليابان من كون الأخيرة تتبنى رؤية واضحة لجهة ضخ الاستثمارات التنموية في الهند والدول المحيطة بها مثل بنغلاديش وبورما، وينبع أيضا من اهتمامه باقامة شراكة حقيقية مع دول منظومة آسيان التي ترددت حكومة حزب المؤتمر في التعاون الواسع معها على الرغم من تبنيها لسياسة “التوجه شرقا”.
والحال أن نجاح سياسة الهند الخارجية مرهون بمدى القوة والمكانة الاقتصادية للبلاد، مثلما قال وزير الخارجية والدفاع الأسبق “جاسوانت سينغ” في مقال نشره مؤخرا. كم أن نجاحها مرهون أيضا بالابتعاد عن التجمعات التي أكل الدهر عليها وشرب كـ”حركة عدم الانحياز”، والتركيز بدلا من ذلك على الارتباط بالقوى الصاعدة مثل البرازيل وجنوب افريقيا، وتقوية الروابط مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول منظومة آسيان ودول الخليج العربية، التي تغذي الهند بالطاقة والتحويلات المالية الضخمة، مع أخذ الحيطة والحذر في الوقت نفسه من النوايا الامبراطورية لروسيا بوتين.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh