(كاريكاتور من “أخبار القدس”)
يدور أحياناً كلام عن “المصالحة”، ويخفت في أحيان أخرى. في الحالة الأولى يدبّج معلقون مقالات و”تحليلات” المديح، وفي الثانية مقالات و”تحليلات” الشكوى. ولكن ما لنا وهؤلاء. المهم في الحالتين أن أحداً لا يتوقف أمام كلمة “المصالحة”، التي تحتاج الآن وهنا لعلامتي تنصيص، وإلا أصبحت كلمة مضللة.
“للمصالحة” سقفان أعلى وأدنى. الأعلى برنامج للحراك السياسي في الإقليم والعالم، والأدنى برنامج للترتيبات الداخلية الإدارية والتنظيمية والمالية والأمنية والوظيفية. في كلا السقفين تناقضات وبينهما أكثر من تناقض صريح.
على المستوى السياسي: إذا اقتربت السلطة من برنامج حماس الرفضوي حكمت على نفسها بالشلل في الإقليم والعالم. وإذا اقتربت حماس من برنامج السلطة التفاوضي جابهت مشكلة مع جمهورها وحلفائها في الداخل والخارج.
وعلى الرغم من حقيقة أن برنامج المستوى السياسي أكثر أهمية من برنامج الترتيبات الداخلية، إلا أن تجربة خمس سنوات مضت توحي بأن السقف الأدنى “للمصالحة”، الذي يعني في أذهان “المتصالحين” اقتسام البنية التحتية لحقل السلطة يتجلى كعقدة حقيقية صعبة الحل.
ولا ضرورة، بطبيعة الحال، للتذكير بالتأثيرات المتبادلة بين السقفين، وباختفاء أحدهما وراء الآخر، أي بالعلاقة النفعية المتبادلة بين الذاتي والعام، والتي غالباً ما يتم تمويهها بتعبيرات أيديولوجية، تزداد ضجيجاً كلما استدعت الحاجة اختفاء أحدهما وراء الآخر.
فلنقل، إذاً، إننا نجابه حالة من الاستعصاء. ولكن ما مصدر هذا الاستعصاء؟ ثمة اجتهادات كثيرة، ومن المؤسف أن كلمة الانقسام، التي يُفترض “بالمصالحة” أن تضع حداً لها لم تنل ما تستحق من تفكير وتدبير. هل نجم الانقسام، مثلاً، عن انقلاب حماس في غزة، أم كان الانقلاب تتويجاً للانقسام؟ وهل وقع الانقسام داخل الحقل السياسي الفلسطيني نفسه أم نجم عن محاولة للاستيلاء عليه من جانب قوّة جاءت من خارجه؟ وهل الحقل السياسي محكوم بموازين القوى بين الفاعلين أم رهينة موازين قوى خارجية؟
لن نتمكن من فهم معنى ومبنى الاستعصاء دون التفكير في أسئلة كهذه. هذه الأسئلة لا تحتمل التبسيط، بمعنى أن فيها إحالات سوسيولوجية وأيديولوجية وسياسية، إذا سقطت من الحسبان اختل الميزان. وكما يتبادل سقفا “المصالحة” لعبة التجلي والخفاء، تتبادل العوامل الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية الأدوار في سياق اللعبة نفسها.
بداية الانقسام أصل والانقلاب فرع. وبقدر ما يتعلّق الأمر بأبعاده السوسيولوجية، فإن في جوهر الانقسام، الذي تُوّج بانقلاب، تعبيرا عن ممانعة شرائح واسعة من الفلسطينيين في المخيمات، وأحياء المدن المريّفة، والمناطق الريفية المُهملة، إزاء السلطة الفلسطينية (وفي الواقع إزاء كل سلطة) بما تعنيه من سياسة وثقافة وأنماط حياة وسلوك، وأحلام غير قابلة للتحقيق. وهذه الممانعة عابرة للجغرافيا، بمعنى أنها لا تنحصر في غزة. وقد أصبح التعبير عن الممانعة بالانقلاب ممكناً نتيجة توّفر أداته السياسية والتعبوية والعسكرية. وهذا ما وفرته حماس، وما تبقى وفرته جغرافية قطاع غزة، ورهانات الاحتلال.
إذا استخدمنا لغة مباشرة، وفجة نوعاً ما، فلنقل إن الانقلاب يعني ثأر المخيم من المدينة، وثأر الداخل من الخارج. وهذه كلها مؤثرات قوية إذا انسد أفق الحل التفاوضي والسياسي. هذا أولاً.
وثانياً، فلسطين بالمعنى الأيديولوجي مشروع قابل للإنتاج وإعادة الإنتاج، طالما بقيت المسألة الفلسطينية دون حل. حماس مشروع لإنتاج وإعادة إنتاج فلسطين بطريقة مغايرة لما مارسته الحركة القومية الفلسطينية منذ أواسط الستينيات وحتى أواسط التسعينيات.
رأت الحركة القومية الفلسطينية في نفسها جزءاً من حركة الثورة العالمية، وحركة التحرر القومي العربية، كما تصرفت كوريث لتقاليد الوطنية الفلسطينية قبل النكبة. وفي هذا السياق بلورت صورة عن الذات والعالم استناداً إلى تحالفات واستراتيجيات نجمت عن هذه الرؤية. في المقابل ترى حماس في نفسها جزءاً من حركة الإسلام السياسي المجاهد الصاعد منذ أواسط السبعينيات في مناطق عربية مختلفة، وقد بلورت رؤية الذات والعالم استناداً إلى تحالفات واستراتيجيات نجمت عن هذه الرؤية.
القومية (بالتعريف المتداول في اللغات الأوروبية، وكثيراً ما يُستعاض عنها في الأدبيات العربية بمفردة الوطنية) ليست قاسماً مشتركاً بين الجانبين. والدليل أن الدولانية مارست دور القاطرة في مشروع الحركة القومية الفلسطينية، التي اعتبرت أن إخراج الفلسطينيين من غياهب النسيان بعد النكبة، ووضعهم على سكة التاريخ، من أهم وأعظم إنجازاتها.
وقد كان النـزوع الدولاني، مصحوباً بالذعر من السقوط مرّة أخرى في غياهب النسيان، في صميم مشروع الحل التفاوضي. في المقابل لا تحظى الدولانية بمكانة يعتد بها في حماس كمشروع بديل لإنتاج وإعادة إنتاج فلسطين.
لم تكن إعادة إنتاج المجتمع الفلسطيني بقيم جديدة جزءاً مركزياً في مشروع الحركة القومية الفلسطينية، كان المركزي موضوع الهوية الفلسطينية، وتفردها، واستقلاليتها السياسية والثقافية، وعمقها التاريخي، بينما إعادة تشكيل هوية الفرد والمجتمع استناداً إلى تصوّرات دينية في صميم حماس كمشروع.
أخيراً، وثالثاً، ألمحنا في المقدمة إلى السقف الأعلى “للمصالحة” كبرنامج للحراك في الإقليم والعالم، وإلى خوف السلطة (وهي محقة) من الشلل، وخشية حماس من فقدان جمهورها وحلفائها. وينبغي أن نضيف، هنا، مصدراً جديداً للاستعصاء: اقتراب هذا الطرف أو ذاك من برنامج الآخر جزء من عملية اقتسام الحقل السياسي، ودلالة على مكانته، وعلى حقيقة موازين القوى، بمعنى أن الذاتي يتفوّق على العام. وهذا ما يتجلى في سلوك حماس.
وإذا كان في هذا الدليل على مدى ما وصلنا إليه، فإن فيه الدليل، أيضاً، على أن المصالحة غير ممكنة، حتى وإن تحققت بطريقة شكلية في يوم ما.
ملاحظة: نُشرتْ هذه المقالة في “الأيام” يوم 15 مايو (أيار) 2012، ولا أجد ما يبرر إعادة النظر في خلاصاتها الرئيسة، طالما أن في كل كلام عن المصالحة ما يستدعي المصارحة.
khaderhas1@hotmail.com