رغم إمساكه حتى الآن بخيوط اللعبة في النزاع الأوكراني، فإن بوتين يلعب بالنار داخل البيت الروسي.
لم يشهد التاريخ انهيار إمبراطورية من الداخل مثل انهيار الإمبراطورية الحمراء السوفيتية التي تساقطت كقصر من ورق، وهذا ما اعتبره فلاديمير بوتين بمثابة أكبر كارثة جيوبوليتيكية في القرن العشرين. وخلال حقبة الأحادية الأميركية انتهزت واشنطن فرصة السبات الروسي خلال عهد بوريس يلتسين وأوائل القرن الحالي وأمعنت في تعزيز مواقعها في الجوار الروسي.
منذ 2008، بدأ بوتين، رئيس الوزراء آنذاك، رحلة العودة الروسية إلى المسرح العالمي انطلاقا من الحرب الروسية- الجورجية. حسب وجهة نظر موسكو، لم تكن تلك الحرب سوى نقلة في لعبة شطرنج استهدفت احتياطات الطاقة في آسيا الوسطى، وتوسيع حلف شمال الأطلسي ليصل حدود روسيا، ووضع حد للنفوذ الروسي في البحر الأسود. بيد أنه خلال ولاية باراك أوباما الأولى (2008 – 2012) جرى تبريد الوضع وقام أوباما بخطوات من أجل إزالة القلق الروسي حول منظومة الدرع الصاروخية ودفع باتجاه تجديد معاهدة خفض الأسلحة الإستراتيجية، لكن ذلك لم يكن كافيا كي تعتبر روسيا أنها تعامل باحترام من الند السابق.
عاد بوتين إلى الكرملين في 2012 من الباب الواسع وبدا مصمما على إعادة أمجاد روسيا مستندا إلى زيادة مداخيلها من مبيعات الغاز، وإلى تراجع الاندفاع الأميركي الخارجي تحت قيادة أوباما المهتم بالداخل واقتصاده. ومن دمشق إلى كييف سرعان ما عاد مناخ الحرب الباردة يلقي بظله على اللعبة الدولية. وبينما كان القيصر الجديد مزهوّا بإنجازه في سوتشي، تحركت رياح التاريخ في أوكرانيا وأخذت بوتين على حين غرة، لكنه سرعان ما بدأ هجومه في شبه جزيرة القرم. في مواجهة أوباما “المثقف الحائر” واتحاد أوروبي بلا مخالب، برز بوتين كرجل قادر على إحراز انتصار تكتيكي في الشوط الأول من مبارزة طويلة دون التيقن من النتيجة النهائية.
خلال الحقبة السوفياتية كان الدبّ الروسي يتحرك ببطء، لكنه اليوم يتحرك في أوكرانيا جامعا بين رشاقة الغزال ودهاء الثعلب. المعروف أن الدببة تتقن الرقص فوق الجليد، بيد أن الدب الروسي يرقص هذه المرة دون وجل على الصفيح الساخن من سيباستوبول على البحر الأسود، إلى شرق وجنوب أوكرانيا اللذين يعدان منطقتين حيويتين لمصالح موسكو يقطنهما سكان غالبيتهم من أصول روسية أو ينطقون اللغة الروسية. في اختبار القوة الذي يدخل فيه سلاح الغاز والتوازنات الاستراتيجية تبعا لموقع أوكرانيا بين مناطق النفوذ الأطلسي وروسيا، لا تبدو أجوبة واشنطن والاتحاد الأوروبي كافية لردع بوتين عن مواصلة التوغل بأساليب يقلد فيها أنصار النزعة الروسية ما قام به مناضلو ميدان الاستقلال في كييف. ومن هنا يبدو اتفاق 17 أبريل في جنيف خطوة أولى على طريق شائك.
إن الإصرار الروسي على إقامة نظام فيدرالي في أوكرانيا يضمن حقوق سكان الشرق والجنوب، ما هو إلا شرط مسبق لقبول إجراء الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا في 25 مايو القادم والاعتراف بشرعية الحكم هناك. وفيما يبدو الاتحاد الأوروبي في موقع عدم القادر على إنقاذ وحدة الأراضي الأوكرانية، وفيما تبدو واشنطن مستفيدة من إنهاك موسكو على المدى المتوسط وإبراز حاجة الحلفاء الأوروبيين لها، يركّز حلف شمال الأطلسي على حماية بولندا ومولدافيا ودول البلطيق من تداعيات الحالة الأوكرانية.
مقابل التمهل الأميركي والعجز الأوروبي، تعتبر موسكو أن ديمومة نفوذها في الجوار الأوكراني مسألة مصيرية. رصدت موسكو لبرنامج تحديث قواتها الحربية (2011 – 2020) 20 تريليون روبل ويشمل مخزون الصواريخ البالستية والبواخر الحربية والغواصات، علما أن الصواريخ والمروحيات وقطع المفاعلات النووية الروسية تصنع في أوكرانيا الشرقية. ويتوقع المراقبون استمرار بوتين في اندفاعه لأن روسيا لم تتمكن من تأمين مستلزمات جيوشها دون الاعتماد على البنية الصناعية في أوكرانيا.
بيد أن بوتين الذي ينتقم لسقوط الاتحاد السوفيتي، ويعتبر أنه في موقع الدفاع عن مصالح بلاده، لا يأبه لعدو داخلي أكثر قساوة من خصومه المعلنين. وما هذا العدو سوى الاقتصاد الروسي الذي يعاني من العقوبات الغربية، ومن تبعات القيصرية الجديدة.
زيادة على هروب الاستثمارات واستهداف “الأوليغارشية” المحيطة بالرئيس مما قد يمس ولاءها، دلت آخر التوقعات على أن النمو السنوي لعام 2014 سيهبط من 2.5 بالمئة إلى 0.5 بالمئة، علما أن هشاشة الاقتصاد ترتبط باعتماده الحصري على تصدير المحروقات والسلاح، ولهذا فإن خطط الاتحاد الأوروبي في تقليل الاعتماد على روسيا في الطاقة ليس لصالح موسكو التي لم تجد في الصين البديل المناسب. إضافة إلى ذلك سيزداد الإنفاق العام بصورة كبيرة، فبعد حوالي 50 مليار دولار لتنظيم ألعاب سوتشي، ستكلف شبه جزيرة القرم أرقاما مماثلة سنويا، فيما تعاني قطاعات الصحة والتربية وميزانية التقاعد من أزمات كبيرة.
ورغم إمساكه حتى الآن بخيوط اللعبة في النزاع الأوكراني، فإن بوتين يلعب بالنار داخل البيت الروسي، حيث أن مصدرا روسيا حياديا يحذر من وجود 33 منطقة توتر اثني وقومي وديني في روسيا يمكن أن تصيبها عدوى الانفصال. على المدى القريب تظهر روسيا في موقع الرابح في اللحظة الأوكرانية ضمن نظام دولي متخبط، وليس أكيدا أن يكون المكسب نهائيا وعندها يُخشى من ارتدادات رقصة الدب.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
العرب