ليس هناك من تحرك دولي او اقليمي يشير الى اهتمام زائد حيال اجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان. فالمواقف المعلنة من السعودية وايران والادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي تدعو الى اجراء الانتخابات.لكن أياً من هذه الدول المؤثرة ليست في وارد الانهماك بإقناع اللبنانيين والضغط على ممثليهم لانتخاب رئيس لبلادهم. فإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تقود عملية انكفاء اميركية عنوانها عدم التورط او التدخل المباشر. اما طهران والرياض فكلاهما ينتظر عرض الطرف المقابل. وكلاهما مقتنع أنّ تقديم العرض ينطوي على تنازل لن يقدّمه أحد إلى الآخر. والاتحاد الاوروبي ليس لديه ما يمكن ان يوفر نجاح الاستحقاق. وفرنسا تحديدا ليس لديها غير دعوة اللبنانيين الى الاتفاق.
وكانت القوى السياسية اللبنانية قد سلمت عمليا بتفسير الرئيس نبيه بري للدستور في ضرورة توافر نصاب الثلثين في عقد جلسة انتخاب الرئيس، وفي كل الجلسات. وبالتالي، بمقتضى هذا التفسير من الناحية العملية، فإنّ نجاح أيّ مرشح يتطلّب توافقا يتجاوز ثلثي نواب البرلمان. وبالتالي فإنّه شبه مستحيل خوض معركة انتخابية على اساس الاصطفاف السياسي القائم بين 8 و14 آذار، تؤدي الى انتخاب رئيس. ولا فرصة الا باتفاق بين الطرفين او انفكاك الفريق الشيعي عن حلفائه المسيحيين والانتقال الى الضفة الاخرى، او انفكاك تيار المستقبل عن حلفائه في 14 آذار والانتقال الى الضفة الاخرى. والاحتمال الثالث حصول اتفاق ثنائي سني – شيعي على مرشح يفرضانه على الآخرين.
هذه الاحتمالات الثلاث غير واردة حتى الآن ولا في المدى المنظور، على ما تظهره الوقائع المحلية والاقليمية. فلا حزب الله في وارد ان يتخلّى عن حلفائه المسيحيين ولا تيار المستقبل يستطيع المغامرة في تقويض قوى 14 آذار من اجل مرشّح تؤيده او تتبناه قوى 8 آذار.
ولأن فرص الوصول الى انتخاب رئيس تتطلب هذا التوافق الملزم عملياً، فالمرشح الابرز هو الفراغ الرئاسي. إذ أنّ التوافق مستبعد. وحدّة المواجهة بين المرشحين المعلنين وغير المعلنين في الساحة المسيحية تمنع الوصول الى توافق حول مرشح يمكن ان يفرضونه على حلفائهم. ويدرك هؤلاء انّهم يخوضون معركة ترسيخ زعامة كل منهم في الشارع المسيحي. فالعين على الانتخابات النيابية، وعلى من يكون الاول لدى المسيحيين.
وبالتالي فكما إنّ هناك طموحا الى تصدّر السباق الى الكرسي الأولى، دائما نجد استثمار “مظلومية رئاسية” تكون في العادة رافعة لشخصيات مسيحية في شارعها. وبالتالي فإنّ استراتيجيات الاقطاب المسيحيين تستهدف الشارع المسيحي من خلال استثمار الفوز بالمنصب، إذا توافر، واستثمار عدم الفوز إذا لم يتحقّق. لذا فإنّ التوافق الصريح والعلني بين الاقطاب المسيحيين ليس لصالح أيّ منهم. لأنّه يمنعهم من استثمار الخسارة في الشارع، خصوصا أنّ مكاسب التوافق غير مضمونة، إذا ترافقت مع ارتخاء عصب الحزبية في الشارع المسيحي.
إلى هذا الاصطفاف القائم، وإلى تفسير الرئيس بري للدستور، لا مجال الا بالتوافق على شخص الرئيس او نكون أمام الفراغ الرئاسي الذي ستملؤه الحكومة مجتمعة وفق الدستور، بانتظار التوافق دائماً. وفي غياب أيّ حيوية مسيحية قادرة على تجاوز الثنائية السنيّة – الشيعية المتحكمة بمسار الاستحقاق الرئاسي سلباً، فإنّ التصادم بين قطبي الثنائية سيعطّل الاستحقاق. وتوافقهما يضمن الاتيان برئيس. والاستحقاق الرئاسي بات أسير هذه المعادلة وسط استسلام مسيحي لها. ورغم محاولة العماد ميشال عون التقاط هذا الدور، إلا أنّه بدا غير مقنع، وعاجزا عن اطلاق هذه الحيوية، بسبب الاثقال السياسية التي يحملها، والتي تحتاج الى كثير من الجهد والوقت والعمل لنزعها، على الاقل من وعي الطرف الآخر الذي يحتاج الجنرال إلى تأييده.
المسيحية السياسية اللبنانية، بتنوّعها السياسي الايجابي، وفقدانها الرؤيا الواحدة لأيّ لبنان تريده، بعدما انطوى ذاك اللبنان القديم، بات أطرافها، مهما استثاروا العصبية المسيحية او الحزبية باسم الحقوق المسلوبة، مجرّد لاهثين وراء ثنائية سنية – شيعية عاجزة عن التوافق ومستغرقة في الصدام المفتوح على مستقبل قاتم.
والسيناريو هو إما انتخاب الفراغ الذي لا يثير قلق الخارج. او التوافق الذي شرطه توافق اسلامي، وبركة مسيحية قليلة… والأرجح أنّ الأزمة مستمرة.
richacamal@gmail.com
البلد