لم يكن اختطاف قادة إحدى الميليشيات رئيس الحكومة السابق علي زيدان من فراشه ثم إطلاقه بعد ساعات، العلامة الوحيدة على انهيار الدولة في ليبيا، وإنما أتى الفيديو الجديد “المُسرّب” أخيرا، ليُثبت أن نوري بوسهمين، رئيس “المؤتمر الوطني العام”، وهو أعلى سلطة في البلد، تعرّض بدوره للإختطاف، بل ويُظهِـر الفيديو مقتطفات من استجوابه على أيْدي خاطفيه تَمّ تصويرها من دون عِلمه.
طبعا، أعلن مصدر رسمي أن النائب العام أمَـر بفتح تحقيق في مضمون الفيديو، المنشور على صفحات التواصُل الاجتماعي، تمهيدا لتقديم المتورِّطين في عملية الاختطاف للمُحاكمة، لكن من غيْر المُستبعَد أن يترتّب على تلك الخطوة… اختطاف النائب العام نفسه، إذا ما مضى في هذا المسعى. وبسبب هذا العجز اللامتناهي للدولة، أطلقت الجماعات الإثنية وزعماء القبائل وقادة الميليشيات، أيديهم لتقاسم جلد الثور، بل والتنازُع على حصّة كلّ مجموعة من ثروته الرئيسية، أي النفط. وفي نهاية المطاف، باتت تلك القِوى، على رغم صراعاتها، تشترك في نظرتها لليبيا على أنها “مجرد برميل نفط ترفعه وتخفضه بورصة أوبك ويتركه البعض بمجرّد أن ينضب نفطه، ممتطيا جواز سفره البديل”، مثلما قال الدكتور جبريل العبيدي.
من هذه الزاوية، تتبدّى أسباب انتشار النزعات الإنفصالية، التي تعود بليبيا إلى ما قبل إنشاء المملكة المتحدة بزعامة الملك الراحل إدريس السنوسي الأول، أي تقسيم البلد إلى منطقة غربية عاصمتها طرابلس، وشرقية في إقليم برقة وعاصمتها بنغازي، ومنطقة ثالثة في الجنوب، هي فزان وعاصمتها سَبْها.
وقد استمر تقسيم البلد إلى ثلاث مناطق (الأوليان تحت سيطرة البريطانيين والأخيرة خاضعة لنفوذ فرنسا) منذ إعلان الاستقلال عن إيطاليا في 10 فبراير 1947، حتى توحيد البلد وإعلان المَلَكية في 24 ديسمبر 1951.
الإنفصال… الهدف النهائي
الثابت، أن النخبة السياسية الليبية مُنقسمة اليوم حول تصوّرها لمستقبل الكِيان الوطني، إذ لا توجد رؤية موحَّدة وجامعة لتخوم هذا الوطن. ففي حين يدعو البعض إلى التقسيم والبعض الآخر إلى المحافظة على وحدة البلد، تتزايد يوما بعد آخر أصوات الدّاعين إلى إقامة دولة فدرالية. ويعتقد الدكتور فرج دردور، أستاذ العلوم التربوية بجامعة طرابلس أن المثقّفين تعاملوا مع الدّعوات الانفصالية بالمُجاملة والمُداهنة، إن لم يلتزموا الصّمت تُجاهها.
وقال دردور لـ swissinfo.ch إن “الحقيقة المُرّة المسكوت عنها لأسباب تتعلّق بالوحدة الوطنية، هي أن بوادر العبَث بهذه الأخيرة، بدأت عندما تمّ توزيع مقاعِد لجنة الستّين (عُهد لها بكتابة الدستور) على أساس مناطقي، من دون مُراعاة سِياقها الطبيعي، وهو نِسبة عدد السكان”. وأضاف “على الرغم من القبول بهذا الظلم لقطع الطريق على الفدراليين، كانت النتيجة عكسية، إذ أن هذه المعادلة الظالمة منحت مواطني المنطقة الشرقية حقّا ليس لهُم اقتطعوه من حقوق مواطني المنطقة الغربية بضغوط الفدراليين، الذين هدّدوا بمنع الانتخابات، فرضخ المجلس الانتقالي لمطلبهم درءً للفِتنة، لكن الفدراليين اعتبروا هذا نصرا لهم يستدعي المطالبة بأشياء أخرى للوصول للهدف النهائي، وهو الإنفصال”.
استفتاء بإشراف أممي؟
ومن المهِم التذكير هنا بأن رئيس مجلس إقليم برقة أحمد الزبير السنوسي، كان أعلن في الأول من يونيو 2013 إقليم برقة إقليما فدراليا، لكن في إطار الدولة الليبية، وطالب في الوقت نفسه المؤتمر الوطني العام والحكومة، بإجراء استفتاء في الإقليم بإشراف الأمم المتحدة حول تطبيق النظام الاتحادي.
وردّت عليه تيارات مختلفة بحَملة أطلقت عليها اسم “ستة ملايين ليبي ضدّ الزبير”. غير أن إبراهيم الجضران آمر حَرَس المُنشآت النفطية في المنطقة الشرقية أو ما يسمّى بـ”الهلال النفطي”، انشق عن الحكومة وباشر تصدير النفط لحسابه، بالإتفاق مع شركات غير متعاقِدة مع الشركة الوطنية للنفط. وكان الحضران، وهو قائد جماعة مسلّحة أيام الثورة على القذافي، كُـلّف بمهام رئيس المكتب السياسي لإقليم برقة، الذي كلّفه بدوره بإدارة مؤسسات الإقليم في أعقاب إعلانه إقليما فدراليا من قبِل حركة شباب برقة في مدينة راس الأنوف النفطية.
لكن رئاسة الأركان العامة قرّرت إقالة الجضران من مهامِّه، من دون أن تستطيع القبْض عليه وتقديمه للمُحاكمة، خاصة أنه يحظى بدعم القبائل المُقيمة في محيط مدينة أجدابيا. واستطاع هذا الضابط المُنشقّ أن يفرض حِصارا على الموانئ النفطية في الشرق ويقطع تدفُّقه منذ يوليو 2013، مطالبا بالتحقيق في ما دعاه “فساد في مبيعات النفط” وبحصّة أكبر لسكّان شرق ليبيا من عوائد بيْع النفط “تُدفع لهم مباشرة”.
واعتبر الدكتور دردور في تصريحه لـ swissinfo.ch أن الجضران أكمل ما بدأه الزبير، عندما قفل صنبور النفط وبات يُطالِب بنظام فدرالي، مهدِّدا باستخدام القوة إذا ما حاولت الدولة بسْط سيادتها على موانئها النفطية.
مواجهة حتمية
لا تملك الحكومة المركزية في ليبيا جيشا وطنيا مُدرَّبا وقويا يستطيع إخضاع عناصِر المليشيات للشرعية، وهي التي باتت دُويلات تُسيْطر على المُدن وحتى على المنافذ الحدوية. وقد أصدر رئيس الحكومة السابق زيدان عدّة تحذيرات وإنذارات لقادة الجماعات وضَرَب لهم مواقيت محدّدة لتسليم الأسلحة والاندماج في قوات الجيش أو أجهزة الأمن. لكن المواعيد انقضت من دون أن يُعاقب المستهينون بها. وعزا وزير الخارجية محمد عبد العزيز ذلك العجْز إلى أن ليبيا “ورثت من القذافي اللانظام، فلا توجد وزارة دفاع أو داخلية أو جهاز مخابرات، ما جعل البُعد المؤسَّسي مفقودا”.
غير أن زعماء الميليشيات لم يكتفوا بتجاهُل التحذيرات وحسب، وإنما ذهب الجضران إلى حدّ إهانة زيدان عَلَنا، لما اتَّهمه عبْر إحدى المحطات التلفزيونية بأنه عرض عليه “تحت الطاولة” مُكافأة بقيمة 20 مليون دولار في شكل صُكوك حكومية، مقابل سماحه باستئناف تصدير النفط.
من هنا، باتت المواجهة حتْمية بين الحكومة والجضران، وهي مواجهة كسْر عظم، إذ سُرعان ما تفاقمت الأزمة السياسية المُزمِنة بين المؤتمر الوطني وزيدان، لتنتهي بالإطاحة به، بعدما اتّهم رسميا بإعطاء أموال لقادة ميليشيات مسلّحة من أجْل كسْب صمتها. وهكذا توافَق أعضاء “تحالف القوى الوطنية” الليبرالي مع “حزب العدالة والبناء” الإخواني، بعد تنافُر مديد، على سحْب الثقة من رئيس الحكومة بغالبية 124 نائبا من أصل مائتين.
لعنة النفط
من جهته، عزا الأكاديمي الدكتور جبريل العبيدي، وهو من المُتشبِّثين بوحدة ليبيا، أسباب الصِّراع بين الإنفصاليين والإتحاديين إلى ما دعاه “لعْنة النفط” التي قال إنها “تضعنا أمام رِهانات حرْب أهلية بعد غِياب الحِكمة عند البعض ومحاولة البعض الآخر قرْع طبول الحرب لفكّ الحصار عن الموانئ النفطية بقوة الحشْد الجهوي والمناطقي”. وحذّر في تصريح لـ swissinfo.ch من أن “الحشود الجِهوية على طرفيْ الموانئ، شرقا وغربا، قد تنزلق بالبلاد نحو حرب أهلية وقودها أبناء ليبيا وفتيلها قرار عبَثي تتسبَّب فيه لعنة النفط”.
غير أنه تدارك مؤكِّدا أن “ليبيا ليست بِئر نفط، وإنما هي وطن نعيش فيه وننتمي له، وحين أعلن الأجداد ليبيا دولة فدرالية اتحادية مستقلة، كانت لم تعرف النفط بعدُ، لذا فمِن الخطإ النظر إلى الوطن على أنه مجرّد برميل نفط ترفعه بورصة أوبك أو تخفضه ويغادره البعض، ما أن ينضب نفطه مُمتطيا جوازه البديل، تارِكا البلاد وأوجاعها لمن دُفِن فيها أجدادهم”.
أكثر من ذلك، شدّد العبيدي على أن “بقاء النفط قابِعا في بَطن الأرض إلى أن تصبح لدينا حكومة وطن أفضل من لعنة بيعه أو تهريبه أو سرقته لحساب أي طرف من الأطراف”، وهو طبعا خيار غير واقعي في ظلّ حاجة ليبيا اليوم لتسديد الديون وإعادة بناء البلد، الذي أحاله القذافي إلى خراب في جميع المجالات.
أما الدكتور عبد الحميد النعمي، رئيس حزب الوسط الديمقراطي، فيعكس وجهة نظر فريق ثالث من الليبيين في موضوع التقسيم والفدرالية. فهو ما فتئ يدعو إلى إجراء استفتاء حول مستقبل النظام السياسي والإداري في ليبيا في أقرب وقت ممكن. وشرح موقفه لـ swissinfo.ch مؤكِّدا أن ملف الحُكم المحلّي “لم يحظ بالاهتمام اللاّزم من السلطة السياسية منذ بدايات المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي (2011)، إذ اعتُبر من الملفّات الثانوية، أما حكومة زيدان فمارست الفوْضى الخلاّقة في هذا المجال، دفعا للأوضاع نحو التأزّم وتمهيدا للانفصال”.
وأضاف النعمي أن “آراء زيدان في شأن الوحدة الوطنية والفدرالية، كانت مُعلنة في كثير من وسائل التواصُل الاجتماعي، إذ اعتبر أن وِحدة البلاد هي مطلَب للشركات النفطية، وليست مطلبا وطنيا لأبناء الشعب الليبي”. وزاد مُحذِّرا “الآن، وقد نجح زيدان في وضع البلد على حافة الحرب الأهلية وأصبحت الأوضاع على قاب قوسيْن أو أدنى من الانفِصال، ليس أمامنا سوى مواجهة هذا المطلَب بشجاعة وتنظيم استِفتاء حول مستقبل النظام السياسي والإداري في ليبيا، لنضع الجميع أمام مسؤولياتهم الوطنية”.
ولاحظ النعمي أن هناك “رفْضا عاما للمركزية، مثلما كانت مُطبّقة في النظام السابق، ما جعل الخيارات تنحصِر بين الفدرالية بشقَّيْها، السياسي والإداري، واللامركزية الدستورية التي تقوم على نظام إداري لا مركزي مُثبَّت في الدستور تحدَّد فيه اختصاصات السلطة المركزية وتُمنح صلاحيات واسعة للبلديات والمحافظات”. وعلى هذا الأساس، حثّ النعمي على تنظيم استفتاء في هذه المرحلة تحديدا، “لأن مطالب الفدرالية ارتبطت بمساعي بعض التنظيمات التي تسعى صراحة إلى فرْض التقسيم والانفِصال، تحقيقا لأغراض شخصية وأجَنْدات مشبُوهة” على ما قال. إلا أنه استدرك قائلا “لكن السؤال هنا هو: هل ستُوافق تلك المجموعات الانفصالية على المشاركة في ذلك الاستفتاء، بل وهل ستسمَح بإجرائه أصلا في مناطقها، لعلمها أن نسبة كبيرة من الشعب الليبي رافِضة للتقسيم وللطّرح الفدرالي جُملة وتفصيلا؟”.
عودة للمَلَـكية؟
إلى جانب هذا التجاذب الحاد بين تيارات النُّخبة الليبية المُمزّقة بين فدراليين من جهة وانفصاليين من جهة ثانية وأنصار الدولة المركزية من جهة ثالثة، يوجد فالق كبير آخر يتعلّق بالخيار بين المَلَكية والجمهورية. فإذا كانت الغالبية متشبِّثة بالنظام الجمهوري على ما يبدو، ترتفِع في الجهة المقابلة أصوات مهمّة تدعو للعودة إلى المَلَكية، ومن هؤلاء وزير الخارجية الحالي محمد عبد العزيز، الذي حضّ على العودة إلى النظام المَلَكي باعتبارها “عودة للشرعية، بعدما اختُطِفت طيلة 42 عاما (فترة حُكم القذافي)”، مؤكِّدا أن الثورة في ليبيا “تختلِف عن الثورة في مصر أو تونس أو اليمن”، ومُعتبِرا أن بناء مؤسسات من جديد “هو المسار الصحيح لبناء الدولة والنظام السياسي، الذي يحقق الاستقرار”.
قبائل وميليشيات
مع ذلك، تبدو سيطرة الزّعامات القبلية في غالبية مناطق ليبيا وعلاقاتها المُلتبِسة مع الجماعات المسلّحة، حاجزا أمام التقدّم في بناء مؤسسات دولة حديثة وتكريسا لهشاشة الدولة في غِياب خارطة طريق واضحة للمرحلة المقبلة.
ويعزو المحلِّلون الغربيون بقاء ليبيا في قبْضة تلك الميليشيات بعد الثورة، إلى الدور الكبير الذي أعطي لقادتها على الأرض أثناء حرب التحرير، فيما تحاشت قوات التحالُف الغربي العمليات الأرضية خِشية تِكرار سيناريو أفغانستان والإنْزال الأمريكي في الصومال. وقال أحد تقارير الحِلف الأطلسي في هذا الصدد “إن الدرس الذي تعلّمناه من أفغانستان هو أن تكون قوات التحالف حاضِرة وتقود السياسيين، أما في ليبيا، فالتزمت قوات التحالف بالدّعم الجوي، من دون إنزال جيش يضمَن الإستقرار على الأرض”. وأضاف نفس التقرير أن “القوة السياسية والمحاربين الليبيين رفضوا هذا الوضع (أي الغزْو البري)، الأمر الذي جعل ليبيا تُعاني من مأزَق، نتيجة غياب قوات دولية تؤمِّن تِرسانة القذافي، التي نهبتها الجماعات الإسلامية، وصارت تهدِّد منطقة الساحل بأكملها”.
اعتمادا على هذه الرؤية، يعتقد الجنرال الفرنسي فانسون ديسبوغت، الذي شارك في العمليات الحربية في مالي أن “الإنتصار في الحرب بليبيا حقَّقناه تكتيكيا وخسرْناه استراتيجيا. فإذا كنا قد حقّقنا الهدف العسكري، فإن السلام الذي توخَّيناه بوصفه تتويجا للحرب، ما زال مفقودا”. بهذا المعنى، يمكن القول أن تلك المواقف الغربية تعكِس المطامِع الكبيرة في وضع اليَد مُباشرة على الثروة النفطية الليبية، أسْوة بما حصل في العراق، مع اختلاف السياقين، مما يجعل قسما مهِمّا من خيوط الجدل الليبي- الليبي في شأن الفدرالية والتقسيم، موصُولا – حسب رأي مراقبين- بعواصم القرار الغربية المعنِية بالوضْع الليبي.