1-
هل تستحق تعديلات حماس على قانون العقوبات في غزة التعليق؟
الجواب: لا.
وهل في القول إن حماس تُشرّع لإمارتها الإسلامية في غزة ما ينافي الحقيقة؟
الجواب: لا.
ومبرر الاستنكاف عن التعليق، في الحالتين، أن الأمر يشبه صب الماء في قربة مقطوعة. يهرب هؤلاء من مشكلة الماء والكهرباء والغذاء والدواء إلى الشريعة. بيد أن ثمة ما يستدعي الاهتمام، ويتمثل في ردود فعل مضادة من جانب فصائل فلسطينية بعد طول غياب (وهذا جديد) وردود فعل واسعة من هيئات وجمعيات أهلية (وهذا جديد من حيث الكم لا الكيف).
ولم يكن لردود فعل كهذه أن تكون جديدة لولا الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر، وإعلانهم تنظيماً إرهابياً. بمعنى آخر، يجابه الإسلام السياسي تحدياً غير مسبوق، بعد عقود من النماء والرخاء على طريق التوطين والتمكين. توطينه في الحقل السياسي، وتمكينه من حكم البلاد والعباد. انتهى شهر العسل، لكن طريق الطلاق مريرة وعسيرة.
وبقدر ما يعنينا الأمر، في بلادنا، فإن ردود الفعل من بعض الفصائل، التي اعترضت على تشريعات حماس الجديدة، تُعيد التذكير بالوظيفة السياسية، والأخلاقية، والثقافية، للفصائل السياسية، فلا يكفي أن تكون مناضلاً ومعادياً للاحتلال، بل يجب أن تكون صاحب رؤية اجتماعية وثقافية. وقد غابت كلتاهما عن الحقل السياسي منذ إنشاء السلطة الفلسطينية قبل عقدين.
والأدهى والأمر، أن بعض الفصائل اليسارية التي بررت وجودها منذ عقود طويلة بتصوّرات اجتماعية وثقافية حديثة وحداثية، قد أصيبت منذ إنشاء السلطة بالسكتة الدماغية، ونسيت الحداثة والتحديث. وبما أن الاجتماعي والثقافي سياسي في الجوهر، كما أن السياسي اجتماعي وثقافي في الجوهر، اكتملت الكارثة، التي نحصد، وتحصد، نتائجها الآن.
لم يصمد على مدار العقدين الماضيين، ولم يصر على أن الاجتماعي والثقافي سياسي في الجوهر، وأن السياسي اجتماعي وثقافي في الجوهر، سوى عدد قليل من المثقفين والمغرّدين خارج السرب. ولم يشتر هؤلاء بضاعة “وحدة القوى الوطنية والإسلامية”، ولا “الدم الفلسطيني خط أحمر”، ولا “الوحدة الوطنية” ولا “المقاومة والممانعة”، وكل الشعارات التي أثبت الواقع أنها مجرد أقنعة.
وليس في واقع اليوم ما يبرر شراء بضاعة “المصالحة”، و”ما فات مات”. الوصول إلى نتائج كهذه لا يعني أن أجمل الأخبار ما يأتي غداً، فلا أخبار جميلة في الغد، ولا ما يحزنون. فجديد بعض الفصائل يعيش ويتعايش مع قديمها.
في آذار (مارس) الماضي نشرت وكالة أنباء محلية (وهل يعتقد أحد أن خبراً كهذا يظهر في غير وكالة محلية؟) خبر لقاء بين ممثلين عن فصيل من الفصائل اليسارية جداً في وقت مضى مع “المجلس المركزي لشيوخ القبائل والعشائر العربية” في فلسطين، وذكرت أن الممثلين نقلوا في الاجتماع “تحيات الأمين العام“. يا سلام.
2-
وإذا ابتعدنا، قليلاً، عن المزاح، وفكرنا بطريقة أكثر عمقاً فلنقل إن هذا اللقاء، وما يدخل في حكمه، يصلح وسيلة إيضاح لتحليل العلاقة بين البنية الاجتماعية التقليدية (البطريركية، الأبوية) والممارسة السياسية للفاعلين السياسيين، وكيف ينشأ في وقت ما، وفي ظل ظروف معيّنة، تبادل للمنافع بين الجانبين من أجل البقاء، على الرغم من حقيقة ما بينهما، على السطح، من تنافر.
فقدت البنية الاجتماعية التقليدية الكثير من عناصر قوتها، وتقلّص نفوذها إلى حد بعيد مع انهيار دور العائلات والزعامات التقليدية. وقد أسهم ظهور الفصائل نفسها، إلى جانب عوامل مختلفة (لا يتسع المجال لسردها)، في هذا الأمر.
وفقدت الفصائل، اليسارية على نحو خاص، الكثير من عناصر قوتها، وتقلّص نفوذها إلى حد بعيد، بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، وتحوّلات محلية وإقليمية ودولية (لا يتسع المجال، أيضاً، لسردها).
والمهم في الأمر، أن فقدان البنية الاجتماعية التقليدية لعناصر قوتها لم يسهم في، أو يترافق مع، تراجع قيمها الثقافية والأخلاقية، بل أن تلك القيم وجدت ما يعزز مكانتها، وانتشارها، في سياق الأسلمة، وصعود جماعات الإسلام السياسي.
وعلى الرغم من حقيقة أن ما تبقى من بنى عشائرية وقبلية ينتمي إلى البنية الاجتماعية التقليدية، والسلطة الأبوية نفسها، ويعتبر من تجلياتها، ويعتنق قيمها الأخلاقية والثقافية، إلا أن جماعات الإسلام السياسي الجديدة تزعزع البنية الاجتماعية التقليدية، والسلطة الأبوية، في سياق إعادة إنتاجهما. وهنا، بالتحديد، يتجلى قلق ما تبقى من بنى عشائرية وقبلية تقليدية غالباً ما تمتعت بقدر أكبر من الاستقلالية، واتسمت دائماً بالحرص على حماية وتأبيد خصوصيتها.
وفي المقابل، وعلى الرغم من الشعارات الراديكالية للفصائل اليسارية الفلسطينية، وكلامها عن الحداثة والتحديث، والديمقراطية، وقضايا النساء، والحريات العامة، إلا أنها (مع مرور الزمن) شهدت إعادة إنتاج للسلطة الأبوية، وإن يكن بتسميات جديدة، بما لا يكفل ويضمن بقاء شخصياتها الرئيسة في موقع القيادة وحسب، بل وما يجعل من السلطة الأبوية نفسها مصدراً جديداً للشرعية، أيضاً، وفي هذا السياق يتم الكلام عن القيادة التاريخية، والرفاق المؤسسين، واحترام الأطر التنظيمية، والتسلسل الهرمي (وكلها مجرد أقنعة).
وبهذا المعنى، يتجلى تبادل المنافع، والتحية، بين طرفين يبدو كلاهما، للوهلة الأولى، نقيضاً للآخر، ولكنه ليس كذلك في الواقع. وهذا لا يصدق على هذا الأمين العام، والرفيق أو ذاك، بل على الجميع. وكل يسار وعشائر وأنتم بخير.
khaderhas1@hotmail.com
*
(كاريكاتور كارل ماركس نشرته جريدة “الشروق” المصرية)