أن يٌسمع رئيس الجمهورية مدعويه إلى حوار أمس، تسجيلا صوتيا لموافقات المشاركين في الحوار السابق، الذي انتج “إعلان بعبدا”، وفي طليعتهم “حزب الله”،
فهو الرد الأبسط على تنكر الأخير لموافقته عليه، لاسيما بنوده الأخيرة، وأبرزها “تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية”، و”ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية-السورية” و”التزام القرارات الدولية بما في ذلك القرار1701″.
“الرشق” الرئاسي، عن بعد، كان ردا هادئا على “رديّة” الأمين العام “الأشهر” قبل يومين، حين أعلن، من بنت جبيل، عدم مشاركة حزبه في الحوار الذي دعا إليه سليمان، وتوجه الى رئيس الجمهورية كرئيس بلا صلاحيات.
عمليا، قال سليمان، بالأصوات المسجلة، إن الحزب يتنكر لالتزاماته، مهما كانت علنية، وأيا تكن أهميتها. لكن ذلك لن يغير في واقع أن الحزب المعني يحسن تطويق جمهوره، ويقولبه، حسب الحاجة، ولو ابتدع وقائع لم تقع، أو أغفل أحداثا لا تعزز صورته.
لذا، يفترض بمن يريد الإصغاء الى خطب أمينه العام، أن يتحلى بإلمام بعلمي النفس والإجتماع، كي يتجنب الوقوع في حبائله اللغوية. والمثال خطابه يوم الأحد، وكل خطبه، وخطب نواب تكتله، و”الواجهات” الإعلامية المتلفزة التي “يفرّخها”، وتصريحاتهم، فكلها يستند نهجها الى التخوين أولاً، وإنكار وعي الخصم بالخطر، المفترض، وتأطيره في احدى منزلتين، الضلال أو التواطؤ، وفي الأمرين “خطيئة”، تتيح للمتحدث جلد الآخر بلا هوادة، وترهيب من يفكر، من المؤيدين، في نقاش الوقائع وتمحيصها.
في خطابه الأخير، في مناسبة “منتدى عامل للثقافة والأدب”، (لا يغرنكم العنوان فتتذكرون امجاد ثقافة جبل عامل قبل حزب التسلط)، كرر سرده لرؤيته الى المقاومة، معترفاً مجدداً بأنها كانت قبل أن يكون، مطمئناً سامعيه، تكرارا،أيضا، الى لا مبالاته بإجماع وطني حولها، أي عمليا، عدم اكتراثه بالميثاقية التي جعلها، وآله، “مسمار جحا” تجاه حكومة فؤاد السنيورة.
يذكّر الأمين العام، مفاخرا، بأن المقاومة لم تكن منذ احتلال فلسطين عام1948، موضع إجماع، ويتناسى أن اللا إجماع اودى بلبنان إلى حرب بوجوه متعددة، استمرت 15 سنة،اقتتالا، ومثلها وصاية متوحشة.
وكالعادة، يستفيد من وقائع ليغير التاريخ: يعترف بما كانه “الجدار الطيب”، وينكر أن لبنانيين عبروه للعلاج. والهدف أن يسبغ على كل جمهوره عنفوانا مفتعلا، يخدم تأجيج المشاعر والهوية الضيقة.
وكما ينكر شفاء البعض بعبور “الجدار”،ينكر نجاح الدولة، وديبلوماسيتها، في حماية لبنان، و”مقاومته” في “تفاهم نيسان” الذي حققه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بقوة علاقاته الدولية عام 1996، إثر اعتداء “عناقيد الغضب” الإسرائيلي، والقرار 1701 عام 2006 مع حكومة السنيورة، الذي يوفر أمن الجنوب مذاك.
مع ذلك، “ليست استراتيجية المقاومة أن نبحث عن حرب، أو حربا مفتوحة”(!؟). إذا، لماذا يبقى السلاح خارج استراتيجية دفاعية؟ سؤال يلح أكثر حين يستبعد الأمين العام إقدام اسرائيل على اي إعتداء.
ثم يدخل الأمين العام الموضوع السوري على نسق موضوع “المقاومة”: تخويف مما سيأتي ،حسب تصوره، وحديث عن حماية مقام السيدة زينب. وهنا يقارن، باجتزاء وتحريف، بين حماية مسلحيه، المزعومة، لهذا المقام، وحماية تركيا لمقام سلطان عثماني تضع له قوة عسكرية رمزية بموجب اتفاق مع الدولة السورية، منذ سقوط الامبراطورية العثمانية، يعتبر المقام ومحيطه أرضا تركية، من حق أنقرة الدفاع عنها. فأين القانون الدولي، في الحالة التركية، من تدخله، ولو نقل عن بشار الأسد أن دخول مقاتليه إلى سوريا تم بموافقة حكومته. فهو ليس دولة، ولا يملك أي شرعية دولية.
لكن ما العمل وخلط الأمور وتشويه الوقائع وتحويرها، صنعة الحزب وآله لتأطير جمهوره؟
مثال ذلك، كلمة مقاومة التي يستعملها بطريقة مطاطة، يحار السامع بين أنها تعني الأمين العام بشخصه، أم حزبه، أم مسلحيه هواة السطو على حريات الآمنين، أم مقاتليه مقدمي الخدمات الدموية عبر الحدود؟ والقمة، في هذا الخلط، حين “يسبغ” على ما تشهده سوريا بأن “له علاقة بالمقاومة ووجودها، وبالهوية السياسية للمنطقة”، فيقر، ضمنا، بصراع هويتين سياسيتين قناع إحداهما المقاومة التي يرفع شعارها قناعا للممانعة النائمة منذ 1973، وطموحات ايران الاقليمية منذ 1979، وبين العروبة، أي الهوية الأصيلة للمنطقة.
وبمنطق تطويع الحقائق، ونكران بعضها، يستطرد خطيب بنت جبيل في الموضوع السوري، فيجعل المواجهة مع ثورة أبنائها تصديا لـ”خطر الإرهاب والتكفيريين”، مانحا للأغلبية السورية الساحقة، رافضة النظام الأسدي، هوية أقلية مرفوضة تسللت إلى الثورة من بين أصابع النظام وبرضاه لإفساد صورتها وتلويثها.
الأخطر، أنه يمحو من ذاكرة سامعيه، أن الثورة ناضلت سلميا طيلة 6 أشهر، وقتل الآلاف من المشاركين في تظاهراتها عزّلا، وبينهم عشرات الاطفال والفتيان، وذبح ابراهيم القاشوش الذي غنى لها وخلّدها بصوته، واقتلعت حنجرته، قبل ظهور المتوحش آكل القلب والمدان عند المعارضة المتنوعة.
قلب الحقائق، أو تكرار الأكاذيب حتى تصبح في اللاوعي الجمعي مسلمات ليسا من جديد أدبيات الحزب، كذك فرض مسلمات غير قابلة للنقاش، من جهته، مع زعم الرغبة بالحوار. مراجعة مبتسرة لخطب نوابه، ومداخلاتهم في جلسة الثقة بالحكومة تشي بالكثير من ذلك، منها العناوين الآتية:
1- “اتفاق الطائف نص على المقاومة والتنكر لشرعيتها تنكر له”.( يمكنك أن تقرأ نصه بالعين المجردة، وبالمجهر، ولن تجد شيئا من ذلك).
2- “ولاية الفقيه لا تتناقض مع الدستور”.(التخل العسكري في سوريا بتوجيه معلن منه عمل دستوري واضح؟!).
3- “حزب الله لم ينتقد أي جهاز عسكري علنا”.(لا تتذكروا اشتباكات الضاحية 2005 وأدبيات الحزب عن الجيش، وقبل ذلك يوم دخول الجيش إلى كوكبا إبان الوصاية).
4- “المقاومة هي في صلب الوفاق الوطني”.( المغزى المتواري:معارضة المقاومة تسقط الوفاق الوطني المقصود وتبرر استخدام السلاح في الداخل).
5- “أدمنا على الصبر والتصابر عملا بمبدأ المصلحة الوطنية”.(كما شهدتم في أيار 2006).
6- “لدينا ملفات وملفات وملفات”.(تهديد لطيف وراقٍ يغلف إعلان سطوة).
7- “لو لم يكن هناك مقاومة هل كان في لبنان دولة؟“(وهل هي دولة اليوم مع سلاح قراره في طهران، وحزب مسلح يختار أين يقاتل ومتى، وبأوامر ايرانية أقر بها امينه العام، وأين هذه الدولة في مرافقها ومرافئها التي تدر مليارات لا تصب في خزينتها).
8- “لا نناقش في أي حوار بسلاح المقاومة، بل باستراتيجية دفاعية”.(حاول أن تفهم في ما سيكون الحوار).
9- “لسنا طلاب سلطة”.(لكننا نتسلط).
10- “الأزمة السورية هي من أتت لعندنا”.(لم تبدأ عمليات التفجير إلا في 2013 بعد دخول ميليشيا الحزب الأراضي السورية).
يكتشف القارئ، متابع الخطاب السياسي للحزب، أنه يضع للمتحدثين بصوته، من كبيرهم إلى الصغير مفاتيح سياسية لقولبة رأيه العام في وعاء يوحد فهمه ويغلقه على الرأي الآخر.
rachfay@gmail.com
بيروت في 1 نيسان 2013 / جريدة المستقبل