“أدّعي هنا بأننا أغفلنا نقطة بسيطة ومهمة في فهمنا للكلام المسمى بالوحي. حتى الآن حاولنا أن نوضّح المعنى التالي، أن لغة القرآن، إنسانية وبشرية، وأن القرآن، بصورة مباشرة ومن دون أي وساطة، هو من تأليف محمد (ص)، وأنه لغته وتعبيراته، ونتيجة لتجربته الذاتية وسخونتها وتفاعل حياته معها وتطورها. محمد التاريخي، كان يسير في صراط التكامل، وأصبح شيئا فشيئا أكثر نبوّةً، وازدهرت حياته أكثر فأكثر، وأصبحت عيناه أكثر وضوحا، وصارت مخالبه أثناء صيد المعارف والمعاني أكثر حدّة، وعرف الله ووصفه بأفضل صورة، وأصبح إدراكه ليوم القيامة وللعوالم المختلفة أكثر عمقا، واختار وسائل جديدة لفك عُقد المجتمع. وإذا ما كان محمد (ص) قد عاش عمرا أطول، وتعلّم الغوص بصورة أفضل، وصار مزاجه أوسع، وأسّس نفسه لهضم المسائل بصورة أقوى، كان سيصيد من بحر الحقائق جواهر أثمن، وكان سيجعل القرآن أكبر وأوسع معنى والعالم أكثر غنى”.
من مقدمة بحث للمفكر الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش تحت عنوان: “محمد (ص) راوي الرؤى النبوية” (1)
*
مثلما أثارت الآراء الفلسفية الدينية في كتابه “القبض والبسط في الشريعة” (ترجمة دلال عباس) وفي كتابه “بسط التجربة النبوية” (ترجمة أحمد القبانجي) جدلا كبيرا في الأوساط العلمية الدينية، وخاصة عند الفقهاء والمثقفين الدينيين الشيعة، بعدما أرست قواعد انطلاق ثورة معرفية جديدة في عالم فهم النص الديني (المقدّس)، وبالذات إشاراته البارزة والمثيرة بأن الدين ثابت والمعرفة الدينية متغيّرة وبأن لغة القرآن إنسانية وبشرية، وأن نص القرآن تأسّس وانبسط وتوسّع انطلاقا من التجربة الإيمانية الذاتية للنبي محمد وأن الوحي ورسالة القرآن تابعان لشخصية النبي، فإن الجدل انفجر مجدّدا وبصورة أشد مع آرائه الجديدة التي بدأ طرحها عام 2013 (ولا يزال) في بحث بعنوان “محمد (ص) راوي الرؤى النبوية”. لقد ركز الفيلسوف الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش في بحثه الجديد (الذي كتب منه حتى الآن ستة أجزاء) على آلية ظهور الوحي، أو ما يسميه هو بـ”مكانيزم” الوحي، إذ سعى إلى طرح فرضية تُنافس التفسير التقليدي حول الوحي. وباختصار يرفض سروش في فرضيته الجديدة تفسير المفسّرين الذي يقول بأن القرآن هو كلام الله وأن النبي محمد هو مجرّد ناقل لهذا الكلام (الوحي)، ويريد أن يقول بأن هناك آراء جديدة حول فهم الوحي. وقد أثارت فرضيته أو نظريته ردود أفعال قوية، كانت غالبيتها تصب في استنكار تلك الآراء، وفي عدم توافقها مع فهم عامة المسلمين لرسالة النص القرآني المستندة بشكل واضح وصريح إلى الفكرة القائلة بأن مهمة النبي محمد هي “سماع” النص القرآني من الوحي الذي هو وسيط بين الله والنبي، ثم قيام النبي بـ”نقل” النص الذي سمعه إلى البشر. وهنا أطرح أبرز الأفكار الواردة في هذا الفرضية المثيرة للجدل، وأتجنّب ردود الأفعال عليها.
يبدأ سروش بحثه بالتأكيد على أن الآيات الواردة في القرآن صدرت بلغة عربية عُرفية بشرية وبصورة يفهمها الناس، وخرجت من ضمير النبي محمد، وأنها نتاج تجربة ذاتية مقدّسة خاضها النبي، لكن قدسية التجربة حسب سروش لا تعني أن لغة القرآن أو لغة التجربة مقدّسة. وحتى في إطار انتقال الآيات إلى الناس، يشير سروش إلى أن الصورة الذهنية للنبي محمد وظروفه الشخصية والبيئية والجغرافية والقبائلية التي كان يعيشها، كل ذلك انعكس في تلك التجربة. فالله لم يتحدث إلى النبي ولم يكتب كتابا إليه عبر الوحي، إنما من قام بكل هذا الأمر هو الإنسان التاريخي المتمثّل بالنبي محمد، الذي تحدث بدلا من الله، وكلامه كان هو نفسه كلام الله، فما وراء الطبيعة لبس لباس الطبيعة فأصبح طبيعيا، والألوهية نفذت إلى داخل جسم البشر فأصبحت بشرية، وما وراء التاريخ وضع قدميه على حلبة التاريخ فأصبح تاريخيا. ثم يلفت سروش إلى أبواب التفسير التي فتحت على مصراعيها لفهم آيات القرآن، أو لفهم الوحي، لكنه يعتقد بأنّ باباً لا يزال يجب فتحه في هذا الإطار، هو باب “الرؤى النبوية”.
في أول إشاراته إلى موضوع “الرؤى”، يشير سروش إلى أن للنبي محمد مشاهدات وَحْيَوِيّة، وهو كان “راويا” لتلك المشاهدات، فلم يكن في حالة سماع خطاب خاص أو بانتظار خبر محدّد، ولم تُلقى عليه محاضرة معيّنة ثم بعد ذلك أتته الأوامر بنقل تلك المحاضرة وإبلاغها للناس، بل كان يروي تجاربه الإيمانية التي يخوضها، وكان يتحدّث عن المَشاهد التي يراها، وهناك فرق كبير بين من يرى ثم يروي مشاهداته وبين من يسمع الخبر ثم ينقله إلى الآخرين. حسب سروش، لم يتم إبلاغ النبي بأنك يا محمد اذهب وقل للناس بأن الله واحد، إنما هو رأى وحدانية الله في تجربة شهودية ذاتية ورواها للناس. كذلك لم يتم إبلاغه بأنك يا محمد اذهب وقل للناس بأن هناك شيئا يسمى يوم القيامة وفيه حساب وكتاب وميزان يزن أعمال الناس وبرزخ وجحيم وجنة، إنما هو بنفسه رأى وشاهد تلك المناظر، شاهد كيف يتبادل أهل الجنة مشروب الخمر، وكيف يحترق جلد أهل النار ثم يتبدّل الجلد ليحترق مجددا، فلم يتم إبلاغ النبي محمد بأن كل شيء يسبّح بحمد الله، إنما هو رأى وسمع هذا التسبيح في مشاهداته. فباعتباره حاضرا في الساحة الوَحْيَوِيّة فإن النبي محمد يروي ما يشاهده. إذاً، لا يوجد خطاب ومُخاطب ولا كلام ومتكلّم، إنما كل المسألة تتعلق بالمُشاهدة ثم رواية ما حدث فيها. إضافة إلى أن المَشاهد والأحداث التي رواها النبي كانت متنوّعة، بدءا من حياة الأنبياء حتى نزول الملائكة في ليلة القدر (سورة القدر الآية 1 و4) ومن قيام الملائكة بصفع الظالمين أثناء موتهم (سورة محمد الآية 47) حتى الحديث عمّا ينتظر الكفار من عواقب جسيمة يوم القيامة (سورة مريم الآية 37) ومن جلوس الله على العرش (سورة طه الآية 5) حتى غروب الشمس في الطين الأسود (سورة الكهف الآية 86) ومن سجود الملائكة لآدم (سورة البقرة الآية 34) حتى المجادلة بين الله والنبي إبراهيم (سورة هود الآية 74) ومن قصة أصحاب الكهف حتى قصة الإسراء والمعراج (سور الكهف والإسراء والنجم).
وعليه، يتساءل سروش: أين وقعت تلك المشاهدات؟
ويجيب: في المنام.
أي أن النبي شاهد الوحي والأحداث والمشاهد الواردة في القرآن في منامه. ثم يطرح سروش على قرّاء بحثه إمكانية استخدام كلمات بديلة لكلمة المنام، مثل المكاشفة والحدث والمثال والخيال المنفصل والخيال المتصل والإقليم الثامن وأرض الملكوت. لكنه يؤكد بأنه تعمّد استخدام كلمة المنام بهدف الابتعاد عن أي إبهام في شرح الكلمات البديلة التي في نظره هي كلمات ميتافيزيقية قديمة، وأنه يريد أن يوضّح بصورة أكبر حقيقة التجربة الذاتية الإيمانية للنبي محمد. لذلك، يشير إلى أن بحثه ينصبّ على ضرورة “شرح” السرد النبوي للمشاهدات الوَحْيَوِيّة، أو بمعنى آخر استخدام ظاهرة “الخيال العلمي” لشرح تلك المشاهدات.
يشرح سروش ذلك بالقول بأن المسلم حينما يقرأ القرآن ينسى بأنه يقرأ “رسالة لشخص قد حلم”، حيث لغة ذلك هي لغة نوم وأحلام لا لغة استيقاظ، لكنها لغة بشرية عُرفية. لذا يشدّد على حاجة الأحلام إلى من يفسّرها باعتبار أن طبيعتها تتّسم بالرمزية والسرّية. ويؤكد بأنه من الخطأ اعتبار لغة القرآن لغة استيقاظ، ثم يدّعي بأن جميع تفاسير المسلمين للقرآن هي تفاسير مضلّلة بسبب أنها اعتبرت لغة القرآن لغة استيقاظ لا لغة نوم وأحلام. فكلمات مثل النار، الشمس، الحديقة، الغضب، الرحمة، الماء، العرش، الحور، الميزان، الكتاب… الواردة في القرآن، اعتَقَد البعض بأنها تدل على نفس معانيها في الحياة العادية التي يكون الناس مستيقظين فيها، وغفلوا عن أن الراوي (نبي الإسلام) شاهد وسمع تلك الكلمات في منامه بلغة رمزية مختلفة عن لغة الاستيقاظ. فيشير سروش على سبيل المثال إلى أن المفسّرين فسروا معنى “إذا الشمسُ كُوّرت وإذا النجومُ انكَدَرَت” (سورة التكوير الآية 1 و2) على أنها دلالة على يوم القيامة، لكنهم لم يعوا بأن الشمس والنجوم لها معنى آخر في المنام ليس من الضروري أن يدل على المعنى الحقيقي للشمس والنجوم في الاستيقاظ. لذا يتساءل: لماذا لا نقول بأن النبي محمد رأى في منامه أن الشمس قد اضمحلّت وذهبت، وأنه علينا البحث عن تفسيرٍ لهذه الرؤيا؟.
من جهة أخرى، يؤكد سروش بأنه في لغة الأحلام والرؤى لا يوجد مجال لاستخدام الكناية والمجاز. أي لا يمكن أن نحمّل الألفاظ والكلمات الواردة في الحلم إلا معانيها الحقيقية. ولفهم تلك الألفاظ والكلمات يشدّد سروش على ضرورة الاستعانة بنهج تفسير الأحلام لا الاستعانة بقواميس اللغة. فنبي الإسلام رأى في منامه الشمس والنجوم لا شيئا آخر، وروى للناس مُشاهداته عن الشمس والنجوم، وهو ليس كالشعراء الذين يتحدثون عن الشمس والنجوم فيما مرادهم أمر آخر. فحينما يقول القرآن “وكان عرشه على الماء” (سورة هود الآية 7) فذلك، حسب سروش، إشارة واضحة إلى رؤيا للنبي محمد في منامه شاهد خلالها وبصورة واقعية عرش الله على الماء بصورة، فلم تكن كلمة عرش أو كلمة ماء كناية عن أمر ما، ولم تكن الآية خبرا محدّدا تم توجيهه للنبي وعليه نقل ذلك الخبر إلى الناس، ولم تكن كلمات الآية إشارة إلى كناية ومجاز وقرائن لغوية يجب كشف سرّها، بل هناك حاجة إلى مفسّر للرؤى لفهم معنى تلك الآية.
إن التأكيد على نهج “الرؤى النبوية”، يزيل – حسب سروش – نسبة كبيرة من التفسيرات المجازية من القرآن وينفي عن الآيات الحاجة إلى التأويل ويبقي معانيها في كلماتها وألفاظها الحقيقية الظاهرة فيها. ويستدل سروش في توضيح ذلك بتفسير “الميزان” للقرآن لصاحبه العلاّمة الشيعي الراحل السيد محمد حسين الطباطبائي (1904 – 1981)، فيقول إن صاحب “الميزان” انطلق في تفسير “إلا من خَطِفَ الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب” (سورة الصافات الآية 10) من منطلق علمي لكي يضفي المعقولية على الفهم، وهو ما جعل التكلّف يسيطر على تفسيره، حيث حمّل كلمات الآية ما لا تحتمل، فأشار إلى الشهاب بمعناه الفيزيائي، فيما اعتبر الشياطين أشياء غير مادية، فوقع في مأزق التساؤل التالي: كيف يستطيع الشهاب الطبيعي أن يحرق الشياطين الميتافيزيقية غير المادية؟ ووصل إلى الحل التالي: أنّ كلمة الشياطين هي مجرد “كناية” عن الحجب غير المادية، وبالتالي لا بد استنادا إلى تلك الكناية أن نربط تفسير الآية بالمنجز العلمي. لكن، يتساءل سروش: ماذا كان سيحدث لو أن صاحب “الميزان” تفطّن إلى أن استهداف الشياطين هو رؤيا رآها النبي محمد في منامه؟ ويجيب: كان سيستغني عن تفسيره المتكلّف، إذ بدلا من ذلك كان سيتم الاستعانة بمفسّر الرؤى وبالمتخصص في علم الأنثروبولوجيا من أجل توضيح معنى الآية. فالآية حسب الرؤيا، تشير إلى أنه إذا كان هناك شخص يعيش في منطقة الحجاز، في تاريخها وفي جغرافيتها وفي ظل ثقافتها، ورأى في منامه شهابا يتعقّب الشياطين ليستهدفهم، فماذا سيكون تفسير تلك الرؤيا؟ وبدلا من طرح هذا التساؤل والإجابة عليه بصورة رؤيوية، قام صاحب “الميزان” بقراءة الشهاب والشياطين بلغة الاستيقاظ، حيث وصف الشهاب بأنه شيء فيزيائي علمي، وعليه لابد أن تكون الشياطين شيئا طبيعيا أيضا، وهذا ما جعل الطباطبائي يسير في أتون تفسير يخلط بين أمور الحياة المادية وأمور الحياة الميتافيزيقية ما أوقعه ذلك في مأزق عدم القدرة على طرح تفسير واضح بسيط غير متكلّف.
فاخر السلطان باحث من الكويت.
المصادر:
الموقع الرسمي الالكتروني للدكتور عبدالكريم سروش www.drsoroush.com