“سـُوامي” هو الإسم الذي يطلقه الفنلنديون على بلادهم، والنسبة لها هي كلمة “سواميلاينين”، فإذا أراد أحدهم أن يخبر الآخر بأنه فنلندي فيقول له “مينا أون سواميلاينين”. و”سواميلاينين” تطلق أيضا على اللغة الفنلندية الفريدة في جذورها والغريبة في ألفاظها. فإذا أراد أحدهم أن يسألك إنْ كنت تتحدث الفنلندية فيقول لك “بـُهوتيكو سواميلاينين؟ “.
في منتصف الشهر الجاري تقريبا حينما كنت في دبي ضيفا على منتدى القمة الحكومية سرني كثيرا ان أجد ضمن برنامج المنتدى جلسة خاصة بعرض التجربة الفنلندية في إقامة المجتمع الآمن السعيد والمتطور، وذلك لأسباب سأتعرض لها لاحقا. لكن أصابني بعض الإحباط حينما إكتشفت أن تلك الجلسة مغلقة ويقتصر حضورها على القيادات الحكومية في دولة الإمارات العربية المتحدة.
ولأني كنت حريصا على حضور الجلسة، خصوصا وأن المتحدث فيها كان السيد “إيسكو أهو” رئيس وزراء فنلندا السابق وعضو مركز كينيدي للحكومة في جامعة هارفرد، وهو رجل عصامي ذو تاريخ سياسي ناصع وخبرة طويلة في مجال الإتصالات من خلال شركة “نوكيا” الرائدة، فقد طلبت من الصديق الكريم معالي محمد عبدالله القرقاوي وزير شئون مجلس الوزراء ان يتيح لي حضور الجلسة بصفة إستثنائية، فبادر على الفور بالاتصال مع مدير الجلسة الأخ الأستاذ عبدالله لوتاه الأمين العام لمجلس الإمارات للتنافسية الذي قام بتذليل كل العقبات، فشكرا لهما.
وهكذا وجدت نفسي متطفلا على جلسة كان كل المشاركين فيها من شباب وشابات الإمارات المتطلعين والمتطلعات إلى الإستفادة من تجارب الأمم الأخرى وتطويعها لخدمة بلدهم المنطلق بخطوات وثابة نحو العـُلا.
خصص السيد “أهو” جانبا من محاضرته للحديث عن مسيرته الشخصية، وكيفية دخوله عالم السياسة، وما فعله حينما كان الحزب الذي ينتمي إليه في المعارضة، ثم إنعطف ليتحدث عن تجربته في شركة “نوكيا” الفنلندية للإتصالات والهواتف المحمولة، وما واجهتها هذه الشركة الرائدة من مصاعب، وكيفية تغلبها عليها، وما ينتظرها في المستقبل في ظل المنافسة العالمية الضارية في ميدان الإتصالات ووسائط التواصل الاجتماعي.
أما الجانب الآخر من محاضرته فخصصه للحديث عن بلده وكيف أنه نجح في التحول من إقتصاد زراعي تقليدي في الخمسينات إلى إقتصاد صناعي حديث في التسعينات، فبرز على الخارطة الأوروبية كوطن صاعد، ومجتمع سعيد آمن، ودولة رفاه إجتماعي واسع من بعد سنوات عجاف خلال حقبة الحرب الباردة التي فرضت على فنلندا إتباع نهج سياسي وإقتصادي حذر على الرغم من حيادها المعلن بين المعسكرين الشرقي والغربي.
ومما قاله في هذا السياق أن فنلندا باتت تتصدر اليوم المقارنات الدولية في الأداء الوطني، وصارت تتزعم قائمة أفضل بلد في العالم ــ طبقا لإستطلاع أجرته مجلة نيوزويك الأمريكية في عام 2010 من حيث الصحة والدينامية الاقتصادية والتعليم والبيئة السياسية ونوعية الحياة ــ وأنها ثاني أكثر البلدان استقراراً في العالم ، والأولى في تصنيف ليجاتوم بروسبيريتي لعام 2009. إضافة إلى أنها في الوقت الراهن تعد ثالث بلد من حيث نسبة الخريجين إلى السكان في سن التخرج العادي حسب كتاب “حقائق” الصادر عن منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية في عام 2010 .
لكن كيف تم كل هذا لبلد لايملك أي موارد طبيعية سوى الصيد البحري والأخشاب المستخرجة من الغابات والأحراش، وطبيعته المناخية قاسية لا تسمح له بالإعتماد على السياحة كمصدر للدخل على الرغم من جمال بحيراته المتناثرة كحبات اللؤلؤ وسط سهول خضراء على إمتداد البصر، وعلى حدوده الشرقية كانت تقف قوة عظمى (الإتحاد السوفياتي) تطمع في إستعادة نفوذها الغابر عليه يوم كان جزءا من الإمبراطورية الروسية قبل عام 1917 ، وعلى حدوده الغربية دولة مسالمة صديقة (السويد) لكنها ما برحت تنظر إليه وإلى شعبه نظرة إستعلائية لأنه كان تاريخيا جزءا منها؟
الجواب هو الاستثمار الصحيح والمتقن في التعليم بمستوياته المختلفة. وفي إعتقادي أن فنلندا سارت على خطى اليابان في هذا المجال في حقبة ما بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. فهي إبتعدت عن المناكفات السياسية و الصراعات الإيديولوجية، وركزت بدلا من ذلك على بناء الأجيال الجديدة بطريقة صحية، زارعة فيها الأمل، ومشجعة إياها على التأمل والإبتكار والإبداع والإضافة إلى ما إبتكره الآخرون.
أقول هذا بثقة ومن واقع زياراتي الميدانية لفنلندا التي تجاوزت 20 زيارة خلال الفترة من أواخر السبعينات ولغاية بداية التسعينات بواقع شهرين في كل زيارة، وجولات بدأت من العاصمة هلسنكي وأنتهت في روفانييمي في أقصى الشمال، حيث يمكن للمرء أن يرى الشمس ساطعة في منتصف الليل، مرورا بمدن توركو، وتامبريه، ويوفاسكولا، ولاهتي، وإيماترا، وأولو، وغيرها.
في كل هذه الأمكان لم أشعر بالحياة الآمنة البعيدة عن القلق والمنغصات اليومية، وإلتزام الناس بالنظام بطريقة طوعية، والحصول على الخدمات العامة بسلاسة فحسب، وإنما لمستُ أيضا – وهذا هو الأهم ــ كم أن الفنلنديين يعشقون الإرتقاء بذواتهم عبر التعليم المستمر. فترى مثلا الشباب والشابات يقسمون أوقاتهم ما بين العمل إلى جانب والديهم في الحقول والمتاجر والمطاعم وأكشاش الأطعمة التقليدية من أجل تعزيز دخولهم ودخول اسرهم، وبين الذهاب إلى المدارس والجامعات من أجل صقل مواهبهم وتزويد عقولهم بالعلم الملائم لظروف العصر ومتطلبات أسواق العمل العالمية.
وهكذا لم تمض سوى سنوات قليلة إلا والدولة التي عـُرفت دوما بين جاراتها الإسكندنافيات بمواردها المحدودة وإقتصادها الزراعي التقليدي، تخلق لنفسها موردا جديدا تجسد في طاقات ومواهب شبابها وشاباتها من المتخصصين في حقول العلوم غير التقليدية مثل تكنولوجيا المعلومات، والنانوتكنولوجي، وصناعة البرمجيات، وشبيهاتها. وقد تجسدت تلك الطاقات والمواهب في ما حققته شركة “نوكيا” من ريادة في عالم إنتاج أجهزة الهاتف المحمول وتقديم الخدمات المتصلة بها، بدليل أنها أصبحت في عام 2012 ثاني أكبر شركة في العالم في هذا المجال بعد “سامسونغ” الكورية الجنوبية، بسبب توظيفها لأكثر من مائة ألف بائع تجزئة في نحو 150 دولة عبر العالم، ناهيك عن تحقيقها لمداخيل بلغت في عام 2012 نحو 30 بليون يورو. وبطبيعة الحال فإن كل هذا جعل “نوكيا”، وهي إسم بلدة فنلندية تقع على ضفاف نهر كوكيماينيوكي في إقليم بيركانما على بعد 15 كيلومترا إلى الغرب من مدينة تيمبريه، إسما رديفا لفنلندا. فهنيئا لـ “سوامي” وشعبها بهذه التجربة وإلانجازات، وشكرا للإمارات التي تريد التعلم من تجارب الآخرين.
* كاتب وباحث أكاديمي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh