من يختصر حقوق المسيحيين في لبنان بوزارة الطاقة لا يعرف شيئا لا عن لبنان ولا عن المسيحيين ولا عن الاسباب التي أدت الى وصول الوضع المسيحي في البلد الى ما وصل اليه. وصل الوضع المسيحي الى الى أن يكون من يعتبر نفسه على رأس أكبر كتلة نيابية مسيحية، مجرّد أداة لدى “حزب الله” يحرّكه كما يشاء. يحصل ذلك في وقت لا يخفي “حزب الله” نفسه وبلسان أمينه العام أنّ ولاءه الاوّل والاخير لايران.
يصعب تفسير مثل هذا التصرّف عند مثل هذا النوع من المسيحيين بغير كلمة واحدة هي العجز. انّه العجز الذهني عن استيعاب الواقع اللبناني والاقليمي. انّه العجز الذي أوصل ميشال عون الى رفض الخروج من قصر بعبدا في العام 1989 بعد انتخاب رينيه معوّض رئيسا للجمهورية اثر التوصّل الى اتفاق الطائف. وقد تسبب ذلك في تمكين النظام السوري من اغتيال الرئيس معوّض، على غرار اغتياله الرئيس بشير الجميّل في العام 1982.
لا حاجة الى فتح دفاتر الماضي القريب، بما في ذلك هرب عون من قصر بعبدا بعد مراهنته على صدّام حسين في مواجهة حافظ الاسد الراغب في أن يقبض سلفا ثمن مشاركته الجانب الاميركي في طرد الاحتلال العراقي من الكويت.
أراد الاسد الأب قبض الثمن في لبنان وليس في أيّ مكان آخر، فما كان من عون سوى أن سهّل له هذه المهمة الى أبعد حدود. لم يقتصر دخول القوّات السورية الى قصر الرئاسة في بعبدا على القصر نفسه، بل فتح لها عون أيضا أبواب وزارة الدفاع اللبنانية القريبة من القصر.
تكمن مشكلة قسم من المسيحيين في لبنان في أنهم لا يريدون تعلّم شيء من تجارب الماضي، مهما كانت قريبة، ومن عبقرية من يسمّى “الجنرال”. تبيّن في نهاية المطاف أنه والرئيس السابق اميل لحود، الذي يرمز الى عهد الوصاية السورية، وجهان لعملة واحدة.
لا حاجة أيضا الى التذكير بأن شخصا مثل عون لا يستحي من كونه هجّر عشرات آلاف المسيحيين من لبنان بفضل حربي “التحرير” و”الالغاء” اللتين شنّها على المسلمين اللبنانيين ثم على فريق من المسيحيين بين 1988 و1990. لا يستحي الرجل من أنه لا يريد الاعتراف بأنه من فئة أشباه الامّيين. فهو عسكري عندما يتطلّب الامر أن يكون سياسيا وسياسي عندما تدعو الحاجة الى أن يكون عسكريا. تعود المشكلة التي يعاني منها من يعتبر نفسه على رأس الكتلة المسيحية “الأكبر” في مجلس النواب اللبناني في انه لا يريد الاعتراف بأن هذه الكتلة صنعها له “حزب الله”. من دون الحزب الايراني، لا نوّاب لعون في المتنين أو جزّين أو جبيل. بالكاد يستطيع هو أن يكون نائبا عن كسروان لولا أصوات “حزب الله” في هذا القضاء.
حيث الصوت المسيحي هو المرجّح، سقط مرشحو ما يسمّى “التيار العوني”. الدليل على ذلك، أن صهره سقط مرتّين في قضاء البترون لأنّ “حزب الله” لم يستطع أن يفعل له شيئا. الامر نفسه حصل في الكورة وبشري وبيروت الاولى، حيث سقط مرشحو عون بسبب أرجحية الصوت المسيحي.
من يريد بالفعل المحافظة على مصالح المسيحيين في لبنان، وهي مصالح لا تنفصم عن مصالح المسلمين في أيّ شكل من الاشكال، لا يتذرع بحقوق أبناء طائفته من أجل الاحتفاظ بوزارتي الطاقة والاتصالات اللتين يسيطر عليهما، عمليا، “حزب الله”، أي أيران. هل يطالب عون بحقيبة سيادية، كالمال أو الخارجية أو الدفاع أو الداخلية، من أجل زيادة عدد الحقائب التي يسيطر عليها “حزب الله”؟
يفترض في ميشال عون ومن يسير على دربه استيعاب أنّ لا وجود لحقوق مسيحية ولا لشيء من هذا القبيل. هناك حقوق مغتصبة تعود الى كلّ اللبنانيين. من اغتصب هذه الحقوق هو حزب مسلّح يمتلك ميليشيا مذهبية تعطّل الحياة السياسية في لبنان وتعطّل الاقتصاد. هذا الحزب أقام دويلته في لبنان وهو يستخدم سلاحه غير الشرعي من أجل تحويل لبنان مستعمرة ايرانية. أين مصلحة اللبنانيين، خصوصا المسيحيين في ذلك؟
من يتحدّث عن حقوق المسيحيين من خلال وزارة الطاقة، انما يهرب من الواقع. انه الفار نفسه من قصر بعبدا الى السفارة الفرنسية في 1990 للنفاذ بجلده. انه الفار نفسه الذي ترك جنوده المسيحيين والمسلمين يُقتلون بدم بارد على يد القوات السورية التي ما لبثت أن دخلت قصر الرئاسة ووزارة الدفاع للمرّة الاولى منذ استقلال لبنان.
من يهرب الى وزارة الطاقة حاليا، انما يهرب من الحقيقة المرّة المتمثلة في أنه كان هناك دائما في لبنان مسيحيون لا يستطيعون رؤية ما هو أبعد من الانف. لو كان ميشال عون، شبه الامّي الذي يدّعي معرفة كلّ شيء، يرى الى ما هو أبعد من انفه، لكان تذكر أول ما تذكّر اتفاق القاهرة المشؤوم الذي شرّع السلاح الفلسطيني في لبنان والذي عاد على البلد، خصوصا على المسيحيين بالويلات. انّ مشكلة كلّ لبناني هي مع شعار “الشعب والجيش والمقاومة” الذي يكرّس سلاحا غير شرعي على الارض اللبنانية. لا مهمّة لهذا السلاح المذهبي الموجّه الى صدر المواطن المسالم سوى تنفيذ أجندة ايرانية تصبّ في تهجير مسيحيي لبنان. من لديه أدنى شك في ذلك، يستطيع أن يسأل نفسه: ما مصير المسيحيين في حال استمرّ “حزب الله” بواسطة سلاحه في منع العرب من المجيء الى لبنان؟ هل ستزداد هجرة الشبّان المسيحيين الذين يعملون في معظمهم في قطاع الخدمات أم لا؟
منذ العام 1990، وحتى قبل ذلك، لم يتغيّر شيء في مسيرة ميشال عون. لا يزال رجلا هاربا من الواقع. يبدو أنه لم يُهجّر بعد ما يكفي من مسيحيي البلد الى كلّ بقعة من بقاع العالم. هل يجرؤ على الوقوف أمام مرآة ويسأل نفسه لماذا يقيم في الرابية، على طريق بكفيا، وليس في مسقط رأسه حارة حريك التي باتت معقلا من معاقل “حزب الله” في الضاحية الجنوبية لبيروت؟