بالرغم من الحملات السياسية والإعلامية تبقى تركيا بالنسبة إلى الغرب شريكا أساسيا وعنصرا مهما في التوازنات الإقليمية، أما مشكلة أردوغان فتتعدى نزاعه مع غولن القابع في بنسلفانيا، وتمس بإعادة تأسيس تركيا ودورها.
في شهر يوليو/ تموز الذي فيه “يغلي الماء بالكوز” غالبا ما اندلعت الثورات وسقط الحكام وتغير وجه التاريخ. من فرنسا وثورة الباستيل إلى مصر جمال عبدالناصر وانقلابات العراق وما شابه، ارتبطت حرارة الطقس في يوليو/ تموز بأحداث جسام وربما كان سيضاف إليها انقلاب عسكري جديد في تركيا لم يكتب له النجاح وانقلب إلى قبضة حديدية يمارسها رجب طيب أردوغان الذي لا يزال يراهن أن يكون أتاتورك القرن الحادي والعشرين، وصانع جمهورية تركية ثانية على قياسه، مع احتمال تعديل الدستور وتغيير طبيعة النظام السياسي.
شهر يوليو/ تموز يعني أيضا الكثير لتركيا الحديثة، إذ أن اتفاقية لوزان الموقعة في 24 يوليو/ تموز 1923، كرست إلغاء معاهدة سيفر التي حجمت بلاد بني عثمان وأقرت بالحقوق الكردية، ومنحت مصطفى كمال أتاتورك موقع المنقذ والمؤسس. وعلى ما يبدو بغض النظر عن وقائع محاولة الانقلاب الفاشلة ليل 15 – 16 يوليو/ تموز وتحولها إلى ليلة القبض على العسكر، وإهانة عناصر من جيش أتاتورك في الشوارع ورمزية ذلك وآثاره، يكمل أردوغان مسعاه لإعادة النظر بالنموذج الكمالي.
وهو لا يخوض فقط حرب التطهير ضد جماعة غولن أو ما يسميه “الكيان الموازي”، بل ينخرط في صراع سياسي وعسكري مع القوة الكردية الرئيسية أي حزب العمال الكردستاني، ويستمر في نهجه المفرط في التحكم بالسلطة، مما يشي بأن تركيا دخلت حقبة أخرى مفتوحة على كل الاحتمالات.
قبل هذا الاختبار الداخلي، قام أردوغان باستدارته الخارجية نحو إسرائيل وروسيا، ومفاعيلها لا تقتصر على المشهد الإقليمي، لأن “ترتيب أموره” مع بنيامين نتانياهو و”إعادة الوصل” مع فلاديمير بوتين (الذي يشبهه في السلطوية والتحكم بعالم الشبكات الاقتصادية الموازية) سيمنحانه هامشا من الحركة في مناكفته للاتحاد الأوروبي أو في المشاكسة مع واشنطن.
قبل التطرق إلى مستقبل العلاقة التركية- الغربية على المدى القصير، لا بد من التذكير بأن تركيا هي من أهل البيت الغربي: عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 1952 ودعامته في جناحه الجنوبي- الشرقي، ودولة متقدمة بطلب الانتساب إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، أو التسميات التي سبقته منذ عام 1963.
ولذا لا يزال هناك في واشنطن وبرلين وباريس ولندن من يعتقد أن تركيا مُلزمة باحترام منظومة القيم وفق المقاييس الغربية في احترام الحريات. لكن سجل الغرب مع دول إقليمية أخرى وحيال كوارث كبرى من سوريا إلى ليبيا، يجعل تمرير رسائله ودروسه أصعب نظرا للتناقضات وغياب نفس المعايير في التعامل.
إبان الحرب الباردة، تكررت الانقلابات في تركيا وأبرزها الانقلاب الذي قام به الجيش التركي بقيادة الجنرال كنعان إفرين في 12 سبتمبر 1980 حيث تم اعتقال حوالي 650 ألف شخص ومنهم حوالي 50 ألف كردي، وأصدرت المحاكم 517 حكما بالإعدام واقتصر التنفيذ فقط على خمسين حالة، وكذلك تم فصل 30 ألف موظف من أعمالهم، وتجريد 14 ألف شخص من الجنسية التركية وترحيل 30 ألفا آخرين، ووفاة المئات في ظروف غامضة وتحت التعذيب وكذلك حبس العشرات من الصحافيين. يكرر التاريخ نفسه هذه المرة، ليس مع الجنرالات لكن مع من يصوره الغرب بمثابة السلطان الجديد والزعيم. والفارق يتمثل في مراعاة واشنطن تاريخيا للجنرالات وزيادة حذرها من الرئيس التركي بعد عملها معه والرهان عليه في أكثر من ملف.
وحول علاقة باراك حسين أوباما بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هناك إضاءة مهمة وردت في مقالة مجلة أتلانتيك في فبراير 2016 عن عقيدة أوباما إذ يروي كاتبها غولديبرغ كيف أن أوباما رأى في بداية عهده أردوغان بصفته الزعيم المسلم المعتدل الذي سيسد الفجوة بين الشرق والغرب، إلا أن الرئيس الأميركي أصبح ينظر لاحقا إلى أردوغان على أنه “فاشل واستبدادي”.
هل أراد أوباما التخلص من أردوغان قبل نهاية عهده كما تقول بعض المصادر (من دون براهين و كل ما قيل عن دور مشبوه لقاعدة آنجرليك أو عن تغطية لجماعة غولن وجنرالات من الجيش، يندرج في سياق افتراضي) أم أن سياسة الغربَيْن؛ الأميركي والأوروبي، لا تتحمل الاستقلالية التركية أو دور أنقرة الإسلامي والإقليمي، وهل يمكن قياس المواقف الغربية من منظور مقاربة وسائل الإعلام للوضع التركي ولشخصية أردوغان.
كل هذه الأسئلة مشروعة، لكن التفسير التآمري للحدث التركي لا يفي بالغرض، إذ أن انتظار العواصم الغربية وغيرها لعدة ساعات قبل إبداء رأيها ليس بالمستغرب في معاجم الدبلوماسية، حيث يكون الانتظار سيد الموقف حتى جلاء الأمور.
من الواضح أن الكثير من زعماء الغرب كانوا سيبتهجون لو جرى التخلص من أردوغان، لكن دولة مثل فرنسا وبالرغم من تصريحات عالية اللهجة، ليس بإمكانها تحريك الخيوط وراء كواليس المؤسسات التركية، ولا يعتقد أن تكون واشنطن منغمسة بأي دعم لخطط انقلابية وسيكون موضوع تسليم غولن فرصة لقياس التجاذب الأردوغاني- الأوبامي الذي سيبقى من دون حسم وينتقل إلى الإدارة الجديدة.
بالطبع، لا يمكن اختصار كل الدولة التركية في شخص أردوغان، ولا يمكن للغرب ممارسة ضغوط عليه لتغيير نهجه، لأننا في آخر ولاية أوباما ولأن تركيا تبقى حاجة استراتيجية للناتو، والعلاقة الاقتصادية والأمنية معها في غاية الأهمية إن لناحية موضوع اللاجئين أو ما يسمى مكافحة الإرهاب.
هناك خشية في ألمانيا، الشريك الأوروبي الأول لتركيا، من إمكان ذهاب أردوغان بعيدا في تطبيعه مع روسيا مما يهز التوازنات الأوروبية الاستراتيجية. أما في واشنطن فهناك مراقبة عن كثب للتقاطع التركي- الإسرائيلي حول سوريا، وكذلك لوقائع التناغم التركي- الإيراني ضد الأكراد.
بالرغم من الحملات السياسية والإعلامية تبقى تركيا بالنسبة إلى الغرب شريكا أساسيا وعنصرا مهما في التوازنات الإقليمية، أما مشكلة رجب طيب أردوغان فتتعدى نزاعه مع العجوز غولن القابع في بنسلفانيا، وتمس بإعادة تأسيس تركيا ودورها، وهل سيبقى هواها غربيا أم سيكون هناك طموح مع رجب طيب أو من دونه لتسلق سلالم الزعامة في الشرق.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس