وول ستريت جورنال
الأخبار التي وردت في الأسبوع الماضي حول فضيحة فساد في تركيا تبدو من أول وهلة وكأنها قضية تقليدية تتحرى فيها النيابة عن مرتكبيها من أصحاب المراكز المرموقة. بيد أن الاضطرابات التي تهدد حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان قد بدت بوادرها منذ فترة طويلة وهي أحدث تجليات الصراع الدائر بين الفصيلين المحافظين الإسلاميين الرئيسيين في تركيا والموحدين حتى الآن تحت قيادة الحزب الحاكم وهما: “حزب العدالة والتنمية” الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء و”حركة كولن” الشعبية المؤثرة.
لقد شكّل العام الماضي تحدياً بالفعل بالنسبة للسيد أردوغان. فالمظاهرات التي بدأت في شهر أيار/مايو نمت من الغضب بشأن خطط تطوير “حديقة غيزي” في اسطنبول ومثلت قضية ليبرالية تتحدى الحكم الاستبدادي المتزايد لرئيس الوزراء. ويبدو أنه لم يكن لدى معتصمي “حديقة غيزي” الكثير من القواسم المشتركة مع “حركة كولن” – وهي مجموعة غامضة تقوم على أسس صوفية اشتهرت بالتقوى وظلت تدعم السيد أردوغان حتى وقت قريب. إلا أن حركتي “غيزي” و “كولن” هما الآن بحكم الأمر الواقع، إن لم يكن فعلياً، شركاء تجمعهم أهداف مماثلة ألا وهي: مقاومة سلطة السيد أردوغان التي تكاد تكون مطلقة.
فالسيد أردوغان الذي هو أقدم رئيس وزراء منذ أن أصبحت البلاد ديمقراطية في عام 1950، يدير تركيا بمفرده تقريباً. فقد أقام ائتلافاً سياسياً واسعاً من أجل الفوز بالانتخابات في ثلاث مرات متعاقبة وبأغلبية ازدادت كل مرة. وقد ضم ائتلافه إسلاميين وقوميين وناخبين من يمين الوسط وليبراليين مؤيدين لقطاع الأعمال؛ وللسيد أردوغان تأثير على القطاعين التنفيذي والتشريعي للحكومة، فضلاً عن الكثير من وسائل الإعلام ومجتمع الأعمال. وقد أقلق حكمه في بادئ الأمر خصومه الليبراليين العلمانيين غير أنه الآن يزعج أبناء “حركة كولن”.
وترجِع نشأة “حركة كولن” إلى سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأ مؤسسها والعالم الإسلامي فتح الله كولن، البالغ من العمر حالياً 72 عاماً، يجذب أتباعاً له. وشقت حينها رسالة كولن – التي تنشر صورة محافظة من الإسلام ولكنها معتدلة نسبياً – طريقها في تركيا وحققت بعض النجاحات. وتشير بعض التقديرات إلى أن حجم الحركة يصل إلى خمسة ملايين مؤيد على الرغم من تشديد آخرين على أن عدد مؤيديها أقل من ذلك بكثير، ويصل إلى ما دون المليون شخص.
ولدى الحركة وسائل إعلام خاصة بها وجامعات ومدارس ومراكز بحوث وشركات؛ ويمكن أيضاً إيجاد أتباعاً لها في الشرطة والقضاء. وتبدو الحركة التي تتمتع بجاذبية واسعة النطاق ومصداقية في الدين الإسلامي كآخر عقبة في طريق إحكام قبضة السيد أردوغان على السلطة.
وقد أصبحت إدارة أردوغان تتخوف من قوة الحركة المتنامية في العام الماضي عندما قام أعضاء من النيابة العامة لهم علاقات معها باستدعاء أحد المقربين من السيد أردوغان، رئيس وكالة المخابرات التركية هاكان فيدان، للتحقيق. إلا أن رئيس الوزراء منع هذه الخطوة من خلال تمرير تشريع جديد. بيد أنه رأى الأمر بمثابة تحذير وردّ عليه بمحاولة غلق شبكة المدارس الخاصة الإعدادية القوية التابعة لـ “حركة كولن”.
وأتت ردة فعل أتباع “حركة كولن” سريعاً حيث بدأت الصحف التابعة لها بنشر مقالات تهاجم السيد أردوغان الذي أرجأ بدوره خطوة إغلاق المدارس. وفي 12 كانون الأول/ديسمبر، فتح أعضاء النيابة الذين يعرفون بقربهم من “حركة كولن” التحقيق في تهم فساد ضد أعضاء بارزين في مجلس وزراء أردوغان. وبهذه الخطوة، شكّل أتباع “حركة كولن”، الذين لديهم العديد من المؤيدين في المناصب القضائية الرئيسية، تحدياً أكثر مباشرة لحكم السيد أردوغان – الذي دام 12 عاماً – لم يسبقهم أحد إليه من قبل.
وأدت مزاعم الفساد حتى الآن إلى استقالة ثلاثة وزراء، تلاها الأسبوع الماضي حدوث أكبر تعديل وزاري شهده “حزب العدالة والتنمية ” منذ عام 2002. بالإضافة إلى ذلك فصل السيد أردوغان المئات من قيادات الشرطة المؤيدة لـ “حركة كولن” فضلاً عن قيامه يوم الخميس بإقصاء المدعي العام، معمر عكاس، في قضية الفساد المالي.
وكل هذا لا يعدو كونه مقدمة لما يلوح في الأفق من معركة ذات مخاطر جسيمة ألا وهي: انتخابات بلدية اسطنبول في آذار/مارس. فلطالما كان التنافس محتدماً في سباق انتخابات اسطنبول بين “حزب العدالة والتنمية” و”حزب الشعب الجمهوري” العلماني اليساري المعارض الذي وجد له في مصطفى ساريجول مرشحاً يتسم بالقوة والشعبية الكبيرة. ومن غير المرجح أن يصوت أبناء “حركة كولن” بشكل جماعي لمرشح ليبرالي. ولكن ببساطة فمن خلال عدم مشاركة أتباع “حركة كولن” في التصويت فقد يُسفر ذلك عن إمالة الانتخابات لصالح “حزب الشعب الجمهوري” وهو ما سيظهر بشكل قاطع أنهم حاجز قوي يقف في مواجهة السيد أردوغان.
وفي حال فوز حزب السيد أردوغان في اسطنبول، فمن المرجح أن يتشجع رئيس الوزراء ويسعى نحو إجراء استفتاء شعبي لدمج صلاحيات الرئاسة ومنصب رئيس الوزراء قبل موعد الانتخابات في الصيف المقبل. ومن ثم يتنافس السيد أردوغان على رئاسة تلك السلطة التنفيذية الجديدة القاهرة. وفي حال فوزه، فسوف يصبح أكثر رمز سياسي مهيمن في تاريخ تركيا الحديث.
إن ما سيحدث في شهر آذار/مارس ستكون له إمكانية تحديد مسار الديمقراطية في تركيا. ويشكل ذلك تحدياً كبيراً أمام الولايات المتحدة، الأمر الذي يثير تساؤلات شائكة بشأن مستقبل التحالف الأمريكي مع تركيا.
وقد تفاقم الخطر الذي يهدد العلاقات الثنائية بفعل الهجمات الصريحة الملفتة على الولايات المتحدة من قبل مسؤولين بارزين في “حزب العدالة والتنمية” ووسائل الإعلام الموالية للحكومة، التي اتهمت أمريكا بالوقوف وراء تحقيقات الفساد. وتشمل الادعاءات الأخرى التأكيد على أن هناك عاملين في سفارة الولايات المتحدة تواطؤا مع المنظمات غير الحكومية التركية في محاولة للإطاحة بحكومة “حزب العدالة والتنمية”. وفي الأسبوع الماضي ادعى السيد أردوغان علناً بأن تحقيقات الفساد ليست إلا مؤامرة أجنبية. بل إنه زاد من تعقيد الأمور باقتراحه في 21 كانون الأول/ديسمبر بأن يغادر السفير الأمريكي فرانسيس ريتشاردوني الابن – دبلوماسي ممتاز – البلاد في حادثة هي الأولى من نوعها في ذاكرتنا الحية.
ونظراً لحجم تركيا واقتصادها وقوتها العسكرية وموقعها الاستراتيجي، فإن المخاطر تعتبر ضخمة والتأثير الأمريكي لا يعدو كونه محدوداً. يتعين على الولايات المتحدة التحرك بحذر في هذه اللعبة متلافية وضع نفسها تحت بؤرة الضوء مع تركيزها على المحافظة على توجه تركيا الأساسي الغربي والديمقراطي ونحو السوق الحرة. وهو ما يعني عدم إبداء ردود أفعال قوية بشكل علني على ما يمكن أن يكون استفزازات جديدة.
ولكن في الغرف المغلقة، ينبغي على الولايات المتحدة أن توضح للمتتبعين داخل تركيا وخارجها – مع عدم الانحياز لطرف على حساب الآخر في النزاعات المحلية الحالية في البلاد – أن قدرة أمريكا على مساعدة تركيا دبلوماسياً واقتصادياً داخل نطاق منظمة حلف شمال الأطلسي تتوقف على قيام الأتراك بتسوية هذه القضايا بطريقة ديمقراطية تحافظ على سيادة القانون.
سونر چاغاپتاي هو زميل ” باير فاميلي” ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن. كما هو مؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً “صعود تركيا: أول قوة مسلمة في القرن الحادي والعشرين.. والسفير جيمس إيف. جيفري هو زميل زائر مميز في زمالة “فيليب سولونز” في معهد واشنطن.