النظام السوري عاجز عن نقل نار طرابلس الى مناطق اخرى لأن المسار الايراني – الشيعي له سياق آخر في هذا الجانب، ينطلق من حسابات مرتبطة بالسياسة الايرانية واولوياتها. سياسة تتحاشى، اليوم اكثر من الامس، المزيد من تورط حزب الله في اقتتال مذهبي داخل لبنان، وتحرص على منع انتقال التوتر الى مناطق لبنانية اخرى، وحصر النيران حيث اشتعلت. كلّ هذا وسط تراجع ملحوظ في الحديث عن استعدادات حزب الله لحسم معركة القلمون، وميل أوليّ لتقليل تواجده في سورية، مع سعي ايراني متنامٍ لمنع انفجار المواجهة بين عرسال ومحيطها، بالإضافة الى جهد ايراني لتحسين العلاقات مع محيطها الخليجي ومع تركيا.
هذا التحوّل الايراني الاستراتيجي في العلاقة مع النظام العالمي والغرب سيحتاج الى وقت كي تظهر نتائجه في بلادنا، على ما يؤكد احد الخبراء في ايران لأنّ نقطة التحول المحورية في السياسة الخارجية الايرانية ليست في تفاصيل الاتفاق النووي مع الدول الست، بل هي خارج النقاش الذي يدور حول التفاصيل التقنية في هذا الاتفاق. خارج الحوار حول ماذا كسبت ايران نووياً او خسرت. الكلام الجديّ في مكان آخر. بالأولوية اليوم لطيّ مرحلة تمرد ايران على النظام العالمي، واعلانها الصريح انخراطها في منطق السوق، وفتح الباب واسعا امام دخول الشركات الكبرى للاستثمار في ايران والتعامل مع هذه الاستثمارات باعتبارها مكسبا بعدما كانت هذه الشركات تمثل “الاستعمار” وعنوان النهب للشعوب في الادبيات الثورية الايرانية.
هو تحول نوعي يفرض تغييرا في قواعد سلوك ايران الدولي قد لا يفهمه بعض حلفائها سريعا.
ففي تقارير ايرانية عدة حول ردود فعل الشعب الايراني على هذا الاتفاق، كان التعبير المشترك لدى الايرانيين هو “الارتياح” لما سيوفّره الاتفاق مع الغرب من فرص عمل جديدة للإيرانيين، وبداية خروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها ايران بسبب العقوبات.
ولا ينسى الايرانيون ان انهاك الاقتصاد انهى الاتحاد السوفياتي. وقبل ايام جدّد الرئيس الايراني حسن روحاني قوله ان ايران “لن تتقدم بالشعارات”. في اشارة الى ان ايران لم تعد قادرة على ان تحيا وحدها، بعدما ثبت لديها فشل مقولة “الاكتفاء الذاتي”. وهي لا تريد تكرار نموذج كوريا الشمالية. والدخول في منطق السوق وفتح آفاق التعاون مع النظام الرأسمالي العالمي، سيفرض التخفيف من الاستثمار الايديولوجي الذي تبنّته ايران منذ قيام الجمهورية الاسلامية في العام 1979. فإسقاط مقولة “الشيطان الاكبر”، واسقاط مهمة ازالة اسرائيل من الوجود، بعض مؤشرات سلوك ايراني جديد.
وقد اكتفى المرشد الاعلى لإيران علي خامنئي بالقول ان اسرائيل “ستسقط وحدها”، في خطابه الاخير، اي انه ترك مهمة اسقاطها الى القدر والتاريخ، وليس الى أيدي الحرس الثوري الايراني.
وفي العودة الى سورية ولبنان، ثمة وجهة نظر داخل الادارة الاميركية يجري تداولها في عدد من الدراسات الاميركية، منذ انخرط حزب الله في القتال على الاراضي السورية، وهي تقول: “لندع ايران وحزب الله يقاتلان في سورية وليغرقا في رمالها ما داما مصرّين على ذلك. فنحن اكثر من خبر تجارب التدخل الخارجي والحروب الاستباقية، ونعرف عواقب ذلك. نحن من تدخل في فيتنام وغرق في حرب طويلة صدّعت المجتمع الاميركي، ونحن لا نعرف كيف نخرج من افغانستان، وخبرنا تداعيات كارثية الحرب الاستباقية في العراق على الاقتصاد الاميركي”.
وفي النماذج العربية تدخل الرئيس جمال عبد الناصر في اليمن قبل خمسين عاما انهك الجيش المصري وتلت تدخّله نكسة 1967. واخيرا وليس آخرا، تجربة الاحتلال الاسرائيلي في لبنان منذ العام 1978 لم تزل ماثلة للتعلم والاعتبار.
الخسائر الايرانية في سورية لم تتوقف. وحديث الانتصار والحسم من قبل النظام السوري يتراجع، فيما الخيار الايراني في تبني نظام الاسد بات عائقاً امام تحسين علاقات ايران مع جيرانها، ويحول دون وقف خسائرها لدى الجمهور السنّي عموما. هذا ربما ما يجعل ايران اليوم تسعى لوقف استنزافها في سورية، بعدما ثبت في سياق الخيارات الايرانية للدولة العميقة في ايران ان بقاء نظام الاسد باتت تكاليفه على إيران اكبر من خسائر تغيير النظام. فهل يلبي المجتمع الدولي ايران في الملف السوري، ام لا؟
وفي لبنان تبدو المواجهات في طرابلس من تبعات وآثار سورية، وتعكس تخبط النظام السوري، الذي يريد ان يستمر كيفما كان، بالفوضى الخلاقة وبمحاولة تفجير اي بؤرة يمكن ان يصل اليها في لبنان. وهو نجح في تفجير البؤرة السنية – العلوية في طرابلس، ويعجز عن نقلها الى مناطق اخرى. لكنّ الحرب في طرابلس تبدو من مخلّفات “ما قبل الاتفاق الايراني – الغربي”. وقادة المحاور، في طرابلس وفي سورية، قد يكونون أوّل ضحايا هذا الاتفاق.
alyalamine@gmail.com
البلد