حينما أكون في أبو ظبي أحرص على إستخدام سيارات الأجرة في تنقلاتي. وهذه السيارات في العاصمة الإماراتية تتميز بأنها نظيفة، ويقودها سائقون مدربون يرتدون ملابس موحدة (يونيفورم). وفوق ذلك تجد بطاقة مثبتة في المقعد الأمامي تحتوي على إسم السائق ورقمه الشخصي وجنسيته.
وفي آخر زيارة لي إلى هذه المدينة الجميلة، لحضور حفل توزيع جائزة الشيخ زايد للكتاب، وأيضا لتدشين كتابي الجديد الموسوم بـ“ومضات من آسيا: ما صنعه كومار ولم يفعله عبد الفضيل” على هامش فعاليات معرض أبوظبي للكتاب، تصادف أني استخدمت سيارتي أجرة مختلفتين في يوم واحد. وفي كلتا المرتين كان السائق من بنغلاديش.
الأول، لما عرف أني من البحرين، أدار معي حديثا حول الأوضاع في منطقة الخليج والتدخلات الإيرانية السافرة في شئونها الدالخلية، قبل أن ينتقل للحديث عن بلاده ويقول أنها هي الأخرى تخوض متاعب جمة، ملقيا باللائمة على رئيسة الحكومة الحالية الشيخة “حسينة واجد”، ومتهما إياها بالعمالة “للغرب الكافر” بحسب تعبيره، فعرفت أن صاحبنا من ذوي الاتجهات الأصولية التي برزت في السنوات الأخيرة في بنغلاديش، وإعتقل العديد من رموزها، وقدموا للمحاكمة بتهم الإرهاب، بل ونفذ في أحدهم حكم الإعدام.
اما الثاني فقد كان رأيه مختلفا إذ قال ان مصائب بلاده تـُعزى إلى رئيسة الحكومة السابقة وزعيمة حزب بنغلاديش القومي السيدة خالدة ضياء، متهما إياها بموالاة الدولة المستعمرة السابقة، أي باكستان التي – بحسب تعبيره – لا تريد الخير لبنغلاديش ولا تزال حاقدة عليها وعلى شعبها، وتتدخل في شئونها بسبب هزيمتها المرة في حرب الإنفصال.
هذان الموقفان إختصرا المشهد الراهن في تلك البلاد المنقسمة على نفسها ما بين تيارين متنازعين لا يمكن تجسير الهوة بينهما بسبب نزعة الإنتقام المسيطرة على كوادرهما، وتباين أفكارهما الإيديولوجية.
إن الحقيقة التي لم تعد خافية على أحد أن في بنغلاديش سيدتان تتنازعان المنصب الأهم في البلاد وهو رئاسة الحكومة. فبمجرد مقتل القائد المؤسس الشيخ مجيب الرحمن وكافة أفراد أسرته (فيما عدا إبنته الكبرى التي كانت وقتذاك في ألمانيا) في مجزرة دموية في 1975 على يد مجموعة إنقلابية من الضباط من ذوي الرتب المتوسطة برزت الإبنة “حسينة واجد”، التي فعلت ما تفعله عادة نساء العائلات السياسية العريقة في آسيا حينما يفجعن بمقتل او وفاة الأب أو الزوج، فيستثمرن حالة التعاطف الشعبي معهن في ترشيخ أنفسهن لخلافة قريبهن المغدور. فعلت ذلك أنديرا غاندي في الهند، وبي نظير بوتو في باكستان، وباندرانيكا في سريلانكا، وكورازون أكينو في الفلبين، وميغاواتي سوكارنو بوتري في إندونيسيا، وتحاول “أونغ سان سوشي” السير على نفس الدرب في بورما لكن دون نجاح يذكر حتى الآن.
وفي 1981 حينما قــُتل الرئيس البنغلاديشي الأسبق “ضياء الرحمن”، الذي كان قد وصل إلى السلطة في 1976 بعد سلسلة من الانقلابات الدموية والفوضى، تولت أرملته “البيغوم خالدة ضياء” إدارة الحزب الذي أسسه زوجها (حزب بنغلاديش الوطني) ومن خلاله خاضت إنتخابات الرئاسة ضد الشيخة حسينة واجد تحت شعار أنه إذا كان مجيب الرحمن هو مؤسس البلاد فإن ضياء الرحمن هو بطل من أبطال الإستقلال، ففازت مذاك مرات، وخسرت في مرات أخرى.
وجملة القول أن بنغلاديش، التي لحقت بها لعنة باكستان لجهة عدم الإستقرار السياسي والعنف والتشظي والفقر والبؤس جراء إلتحاقها بالكيان الباكستاني وقت تقسيم شبه القارة الهندية في 1947، دخلت فخ التنافس العبثي ما بين سيدتين لا هم لهما سوى الوصول إلى كرسي الحكم. فما أن تنجح إحداهن حتى تقوم الأخرى بلعب دور المعارض، وتجير كل ما تحت يدها للإضرار بالأخرى ومنعها من تحقيق إنجاز يحسب لها. وهذا، طبعا، أدى إلى حالة من الفوضى والإحتراب الداخلي والعنف والعنف المضاد في بلاد البنغال الشرقية، فيما بلاد البنغال الغربية التي فضلت في 1947 البقاء جزءا من الهند تنعم بالإستقرار والتقدم النسبي، وتــُراكم الإنجازات الصناعية والزراعية، وإن لم تسلم من مماحكات بعض القوى الراديكالية “ماويّة” الهوى.
غير ان ما يحسب لوصول الأرملتين البنغلاديشيتين للسلطة في فترات مختلفة حرص كل منهما أثناء توليها الحكم على تمكين نساء البلاد، وتشجيعهن على تأسيس موطيء قدم ثابت لهن في الحياة السياسية والتشريعية. ففي 2004 تم إقرار تعديل دستوري برفع عدد مقاعد البرلمان من 300 إلى 345 مقعدا، مع تحديد نسبة 15% بدلا من 10% من المقاعد للنساء. ثم تم رفع عدد مقاعد البرلمان الى 350 مع تخصيص خمسين مقعدا للنساء. أما المبررات التي ساقتاها الأرملتان، كي لا يقال أنهما إنحازتا فقط لبنات جنسهما، فهي نفس المبررات التي تسوقها الحركات النسائية البنغلاديشية لمنح النساء تمثيلا أكبر في صياغة التشريعات وصنع القرار، ومنها أن نساء بنغلاديش يستحقن ذلك لأنهن حملن السلاح وقمن بدور مشهود في الأعمال الحربية ضد الجيش الباكستاني خلال حرب الإنفصال، ناهيك عن أن مئات الآلاف منهن تعرضن للقتل والإغتصاب والتهجير والسلب والإختطاف على أيدي قوات حاكم باكستان العسكري وقتذاك الجنرال يحيى خان (تشير الوثائق الخاصة بتلك الفترة المظلمة أن ما بين 800 ألف و3 ملايين من مواطني باكستان الشرقية لقوا حتفهم في حرب الإبادة الجماعية التي قادها يحيى خان).
ومن أمثلة ما حدث مؤخرا في سياق تمكين البنغلاديشيات سياسيا، أن “حسينة واجد” لم تكتف بمنح حقيبة الخارجية الرفيعة إلى السيدة “ديبو موني” في حكومتها الحالية، وإنما إستخدمت أغلبيتها البرلمانية للضغط من أجل أن يؤول منصب رئيس البرلمان (جاتيا سانغساد) أيضا إلى السيدة “شيرين شيرمين تشوداري”(46 عاما) التي تقول سيرتها الذاتية انها إبنة “رفيق الله تشودري” السكرتير الشخصي لمجيب الرحمن، وأنها تلقت تعليمها الجامعي في جامعة دكا، قبل أن تحصل على الدكتوراه من جامعة إسيكس البريطانية في القانون الدستوري، وأنها تولت من قبل حقيبة شئون الطفولة والأمومة، وحافظت على مقعدها البرلماني منذ عام 2009.
وهكذا صارت تشودري، التي تولت الدفاع مرارا عن الشيخة حسينة اثناء اقتياد غريمتها لها الى المحاكم بتهم مفبركة، اول إمرأة تترأس البرلمان في هذا البلد ذي الأغلبية المسلمة، الأمر الذي أثار – بطبيعة الحال – إستهجان القوى الاسلامية المتشددة، وجعلها تهدد بإحداث فوضى عارمة في البلاد.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh