لا أنتمي إلى فتح أو غيرها، ولكن أعتقد أن فتح هي آخر، وأهم، وأكبر، ورقة في يد الحركة الوطنية الفلسطينية المنكوبة والمنهوبة، في مقاومة موجة الأصولية. يستمد هذا الكلام مبرره من “مقالة” مهرها شخص، نطق في مناسبات سابقة باسم فتح، بتوقيعه، وفيها عداء للنساء، وتجليات طالبانية، ربما كانت الأولى في تاريخ الحركة.
لن يجادل أحد في حق المعني بالأمر، أو غيره، في تبني ما شاء من أفكار شخصية، بما فيها كراهية النساء، وتقليد لغة الطالبان. فهذا شأنه. ولكن لا يحق لشخص ينطق باسم حركة كانت دائماً منفتحة ومتنوّرة، أن يقول كلاما كهذا. ولا أعتقد أن ما جاء في “مقالة” الشخص المعني يعبر عن فتح. ومن المنطقي، في حالة كهذه، أن تنأى الحركة بنفسها عن هذا الكلام، وأن تقول للمعني بلغة لا لبس فيها: لا يحق لك الكلام باسمنا.
ولكن لماذا “تكبير” الموضوع؟
لأن مسألة النساء هي مفتاح المفاتيح، وأم المعارك، بداية من مفهوم المواطنة، وانتهاء بمفهوم الدولة. وما بين هذا وذاك معنى ومبنى الحرية، وآليات التفاوض الاجتماعي بين فئات اجتماعية مختلفة، تتبنى وجهات نظر متباينة، وتحتاج إلى تسويات سلمية، لتعزيز مبدأ التعايش.
يتجلى مقياس الحرية في المسافة التي تقفها الدولة من الحريات الفردية والعامة، وقضايا الأخلاق، والضمير. كلما ابتعدت عن هذا كله، واعتبرته خارج اختصاصها، كلما ارتفعت نسبة الحرية. اختصاص الدولة هو حماية الحريات الفردية والعامة.
إذا أصبحت الحريات الفردية والعامة، وما يتصل بها من قضايا الأخلاق والضمير، من اختصاص الدولة، تكون جزءاً من وظيفة البيروقراطية، وتتجلى في مدخلات ومخرجات، وفي آليات وأدوات محددة سلفاً للتعريف والتصنيف، والإعلام والإفهام، والضبط والقياس. ولهذه الأشياء كلها، فرادى، ومجتمعة، دلالات ومضامين سياسية.
مَنْ يفشل في إقامة الصلة بين المعاني السائدة للأنوثة والذكورة، ومسائل من نوع بنية وهوية السلطة السياسية، وآليات التفاوض الاجتماعي، وإمكانيات التعايش السلمي، لن يفهم كيف يمكن تحليل مفهوم السلطة السياسية، ولماذا لا تنفصل هذه عن تلك.
إذا أردنا أن نكون، دائماً، أقرب إلى الواقع، من الضروري رؤية السياسة في كل شيء، حتى في الأزياء والموضة، والرياضة، والمدرسة، وإشارة المرور في الشارع، وروتين الحياة اليومية، ولغة الجسد، والخطاب العام. تحيل كل هذه الأشياء إلى، وتنجم عن، معنى ومبنى السلطة السياسية، (باعتبارها فكرة، وجهازاً إدارياً، وأداة للضبط والقياس) في هذا المجتمع أو ذاك.
ثمة أدوات للضبط والقياس تُصاغ في قوانين، ومصادر عامة تمثل منجماً من ذهب في كل محاولة لتقنين وتعريف الحريات الفردية والعامة. وتجدر ملاحظة أن المصادر المعنية لا تُسهم في توليد أدوات للضبط والقياس، إلا إذا تعرّضت للتأويل أولاً، وعوملت بطريقة انتقائية ثانياً.
وعلى رأسها، طبعاً، الأعراف والتقاليد والعادات السائدة. وغالباً ما تسمع شخصاً يقول لك: هذا يتعارض مع عادات وتقاليد شعبنا. وهذه المرافعة شائعة في العالم العربي، وغالباً ما تنحصر في موضوع الأخلاق. ولكن هل التعذيب في السجون من تلك التقاليد، هل نهب وإهدار الثروات العامة، وإفقار الناس، جزء من تلك التقاليد، وهل تكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، وعدم الاعتراف بحق الناس في المعارضة جزء من تلك التقاليد؟
والصحيح، سواء تعلّق الأمر بالضمير والأخلاق، أو بكل شيء آخر، أن لا ناقة “لشعبنا” (شعبه) في هذا كله ولا جمل. والأصح أن “شعبنا” (شعبه) تفاوض على مدار قرون وأجيال لخلق أشكال من التعايش والتسويات، بما يضمن السِلم الاجتماعي. وأن هذه وتلك كانت انعكاساً لمعنى ومبنى السلطة السياسية في هذا الزمن أو ذاك. والأصح، أيضاً، أن تجليات مختلفة لما تحقق من تعايش وتسويات في أزمنة مضت، أصبح ضيّقاً على “شعبنا” (شعبه).
ونتيجة هذا الضيق اصبح الانفصام الفردي والجمعي الحل الوحيد، والمُحتمل، للتعايش مع المأزق، طالما تعسّر الخروج منه: انفصام في اللغة ما بين عامية حميمة وصريحة لا تحظى بالاعتراف، وفصحى بليغة سائدة، وسيّدة، لكنها كاذبة. انفصام ما بين الشخصي والعام، لا يتجلى الأوّل في الثاني إلا في محاولة للتماهي معه، ولا يحضر الثاني في الأوّل إلا كحارس ورقيب.
فلنسيّس: لا مواطنة دون حقوق كاملة ومتساوية للنساء. حق النساء في المساواة الكاملة لا يُستمد من كونهم أمهات، وزوجات، وبنات، وأخوات، وحبيبات، ولا يُستمد من حقيقة أن بينهن العالمِات، والمثقفات، والفنانات، والمحاميات، والأكاديميات، والمناضلات. الحق يُستمد من فكرة المساواة بين المواطنين، دون تمييز في الجنس (بمعنى ذكر أو أنثى) ولا في اللون (أبيض، أسود) أو العقيدة الدينية (مسلم، مسيحي، يهودي، بوذي). المرأة متساوية، فقط، لأنها مواطنة.
تبدو هذه التصوّرات بسيطة على الورق، ولن تتحقق في بلادنا، وفي العالم العربي، في وقت قريب. وبقدر ما يتعلق الأمر بفلسطين، نعاني من الاحتلال، ومن تمزقات وتشوّهات اجتماعية تشيب لهولها الولدان، ناهيك عن تجارب حماس في الهندسة الاجتماعية. ومع ذلك، وعلى الرغم منه، في بلادنا منظمات نسوية مهنية محترفة ومحترمة، ونساء يتسمن بالقوة والشجاعة والبراعة.
المرأة، كما جاء في أهم وثائق منظمة التحرير الفلسطينية هي “حارسة نارنا المقدسة”. وعندما تحاول المس بمكانها ومكانتها يد طالبانية، تصبح التصوّرات، حتى وإن كانت بسيطة، وعلى الورق، جزءاً من خارطة للطريق، ومحاولة للقول: في الموقف من مسألة النساء ما ينبئ بهوية الدولة، التي كانت حلماً لأجيال، وما يبرر، مُسبقاً، التفكير في احتمال تحويلها إلى واقع على الأرض، أو الإفاقة من الحلم على كابوس.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني