عندما ينفجر جسمك بوجهك فجأة، فيصبح الوجع حاضرا طاغياً، ماذا تفعل؟ تلجأ الى المختار؟ أو الى السمكري؟ أو الى مترجم النصوص اليونانية؟ هذه أسئلة لا تطرحها على نفسك وأنت على هذه الحال المزرية من التلوي بالألم. فأنت، بالفطرة وبالفهم، تذهب الى المستشفى، حيث تحدس بأن هناك، بالذات، وليس أي مكان آخر، سوف تعالج، وتواسى بل وربما تدلَّل. ولكن ما أن تطأ قدماك الواهنة مبنى المستشفى وتُحال الى قسم “الطوارئ”، حتى تهبط هذه الأسئلة وتستقر طوال إقامتك في هذه المستشفى وما بعد الإفراج عنك.
“إلى أين كان يمكنني أن ألجأ غير هنا؟ إلى من كان يمكنني أن أتوجه إلى غير الاطباء؟”. طوال الوقت اسأل نفسي، واستعرض مختلف المهن الممكنة، ترفيها عن نفسي بانتظار غودو… “الدكتور”…
فمنذ اللحظة الأولى التي تُستقبل بها الى قسم “الطوارئ”، وحتى صعودك إلى إحدى غرف المستشفى، وانت تعامل كأنك غير مريض، تتكبّد ست ساعات من الانتظار، في غرفة هرمة ينضح منها الغبار والقذراة، لا مستشفى يفترض انها مرموقة. ولكن في هذه الأثناء لا تُعفى من مآل “الكباش” بين إدارة هذه المستشفى وشركة التأمين المغطية لنفقات اقامتك فيها. لا تفهم أبداً رهانات هذا الكباش، ولكن أسئلته إليك من الأكثر وضوحا: فأنت بموجبها متمارض ولست مريضاً. وأعمق منها، خاطرةٌ تلامس المناخات الكافكاوية: أنت متهم بموجبها، بأنك مريض. فتعود، منعاً لغضبك من الاندلاع وسط هذه المعْمعة، تسأل نفسك: هل كان علي ان أتصل بفاروق الكهربجي أو بالحاج راشد النجار….؟
تتصور الفرج آتٍ عندما تصعد الى غرفتك، وتستقر، وتفهم بأن الطبيب سيحضر… سيحضر… وبأنك بالتالي سوف تعلم ماذا دهاك. لكنك في الواقع “تُنقع” في الغرفة، وتسأل مئة مرة عنه، ذاك الطبيب الذي سجل اسمه على ورقة صعودك، فصار “مسؤولا” عن حالتك… تتوسل، تستفهم، تغضب، من غير جدوى… فعندما ستحين ساعته سوف يطلّ، مكفهراً، متوتراً… كأنك خرّبت مسار حياته بإلحاحك على حضوره. “أنظر إليّ يا دكتور… استمع إليّ…”. والدكتور لا يتطلع اليك: عينه الى البعيد، فوق، في تلك الآفاق الرحبة التي تنتظره. ممتعض من وجودك بالتأكيد، وهنا بالذات. يكاد ينطقها تلك الكلمات، انها على رأس لسانه: “ماذا تفعل هنا؟” ولهجة الإتهام صريحة، من انك مريض. مثله مثل إدارة المستشفى، يصرخ بوجهك تهمة انك مريض.
بما هو مشغول الطبيب يا ترى؟ هل هو يقوم بأبحاث تخدم الصحة العامة، وتفرض عليه انضباطا صارما بالوقت والجهد الخارجيين؟ هل هو يداوي نازحي سوريا مجاناً، فلم يجد في حال المرضى “العاديين” حرجاً من مجافاتهم، على أساس انهم “مرفهين قياساً….”؟ هل يخضعون لدورات إعادة تأهيل تمكنهم من إنجازات الطب الحديث، وأخطائه الفادحة أحيانا؟ كلا لا شيء من كل ذلك: هم مشغولون بمؤتمرات “الأصحاب” في الخارج، مؤتمرات تعلي من “برستيجهم” المحلي وتقيم تربيطات الأدوية مع الشركات المرموقة. مشغولون بمرضى آخرين، سُجلوا بإسمهم. وبما أن هذا التسجيل يعلي المزيد من هذا “البرستيج”، يجمعون المرضى، كما تُجمع التوقيعات الجماهيرية، بحيث يتحول هؤلاء المرضى الى مجرد ارقام، مثل القتلى، لا يعرفونهم ولا يريدون ان يعرفوا، ولا ان يبذلوا من أجلهم إلا القليل القليل: “يلا عجْلي….! عندي مريض تاني”. لا يريد هذا الطبيب ان يستمع الى سؤال هو الذي طلب مني أن أطرحه عليه… نسي طبعاً، هو مشغول… دائماً مشغول…
الأطباء محصّنون بالقانون. لا يمكن محاسبتهم. الورقة التي أنت مرغم على توقيعها قبل أي عملية، تحت وطأة الألم والتشوش والإرباك، تبرّئ الطبيب من أي غلطة أو هفوة قد يرتكبها بحق المريض. شيء واحد يحميك من هذا الاستفراد بحياتك: الحظ أولاً. تعوّل عليه في كل المجالات؛ فلما لا في العمليات الجراحية؟ والحظ ثانيا: أن تكون، فوق الحظ الأول، من المواطنين أصحاب الدرجة. في هذه الحال، قد لا تحتاج الى اطباء الخارج، ويكون أطباء الداخل يعالجونك وسيف ديموقليطس فوق رقابهم.
الأطباء محصنون بأنظمة المستشفى نفسها. أثناء النهار يجول عليك موظف يسألك إن كان لديك شكوى. تستعجل أنت… طبعاً طبعاً، لدي شكوى ضد الطبيب الذي يعالجني. “فهمتِ غلط”، يجيب الموظف، “الشكوى الوحيدة التي نسجلها تنال عمال التنظيفات وحسب”؛ هؤلاء الذين لا يكفون عن الكنس والمسح طوال النهار، أي الوحيدون الذين يقومون بالعمل المطلوب منهم. هؤلاء يحق لك ايها المريض ان تشتكي عليهم، اما الأطباء، الذين يسرحون ويمرحون في الممرات… فمعصومون. وخلفهم الأقل بروزاً من إدارة وتأمين وضمان و”وزارة”، فضلا عن الممرضين، بيروقراطيي المرض والشفاء، كلٌ بدرجته، آلة كفكاوية من العبث والموت.
تحنّ الى السذاجة بعد كل ذلك، وتتذكر “قسم هيبوقراط “، ذاك النص الكلاسيكي الذي يحدّد وظيفة الأطباء من ضمن منظومة أخلاقية متكاملة، تحيل التصرف الصحيح للطبيب الى مرتبة القداسة. أو هكذا يخال اليك الآن، عندما تقرأه. “قسم هيبوقراط ” هذا، ويفترض أن اطباءنا قد أدلوا به صبيحة مزاولتهم للمهنة، يقول بأن المهارة فى الطب تفترض منظومة أخلاقية. المهارة والمنظومة مترابطتان. أي بمعنى آخر، الطبيب “الشاطر” هو الطبيب النزيه الحساس صاحب المشاعر تجاه مريضه. ليس مجرد موعظة أخلاقية… ذاك القسم. الأخلاق فيه عضوية، غير منفصلة عن تجلياتها. لذلك، لا تجد هذا القسم في المهن الاخرى، وإن وجد، فهو مجرد إعلان، اوإلتزامات. فالمقاول يمكن أن ينجح اذا كان غشاشا وكذلك السياسي، أو الإعلامي. أما الطبيب، فلا؛ بمعنى آخر، ان النزاهة مع المريض والحنو على آلامه هما ملكتان عقليتان علميتان قبل ان تكونا ملكتين أخلاقيتين، أو علامة من علامات النجاح.
ولكن هذا المفهوم للنجاح الطبي غريب عن بيئة الأطباء. فهم في النهاية أبناء بلد لا ينجح فيه “الكبار” بهذه المقاييس. والطبيب، على غرار أولئك الكبار، منشغل بنوع النجاح نفسه؛ ومساره يكاد يكون واضحاً: يبدأ بجمع العدد الأعلى من المرضى المتوسلين رحمته، فينشغل عن مريض بمريض، حتى يبلغ عدد هؤلاء التعساء ما يفي للانتقال الى مراحل رحبة من التسويق… ولا يتوج مساره الا بدخوله نادي الاقوياء أصحاب النفوذ والامتيازات، ما يمكنه من التفكير بالنيابة أو الوزارة أو حتى البلدية…. لينشغل عن مرضاه بـ”خدمة قضايا الوطن”، بصفته صاحب نفوذ أو سلطة أو امتيازات أو مجرّد شهرة…لذلك تراه يبدأ طبيباً “آدميا” يحب الضعفاء وينتهي زعيماً لبيئته، أي أصمّاً عن الأوجاع التي تراودها.
هذا وحالتي ليست بالقصوى. “تبهدلتُ” قليلا قياسا الى ما يمكن ان يذوقه مريض آخر (أو مريضة) وسط دهاليز الأطباء والمستشفيات، من دون تأمين ولا ضمان ولا “وزارة”؛ أو بواحدة من هؤلاء، ولكن من دون الطاقة على المقاتلة من أجلها. أو مريض شارد عن كل هذه “الضمانات” المضنية، وبحالة مستعصية؛ مثل غالبية المرضى اللبنانيين، ومعهم النازحين السوريين المعدمين… انه الجحيم!
عدد لا يحصى من الأطباء في بلدنا هم سحرة هذا الجحيم. ولا يختلف عنهم عدد آخر من أطباء العالم، حتى الغربي المتقدم منه. وآخر تجليات شرّهم، الفضيحة المدوية في الحكومة الاشتراكية الفرنسية، حيث كُشف عن تورط وزير الخزانة فيها، وهو طبيب، بغسل أموال وتهريبها من الضرائب، كان قد جناها من السمسرة لحساب شركات أدوية قوية.
ليس في كل ما سبق إلا القليل من المبالغة. فوسط هذه الغابة من غير المتكرّمين المتفضّلين بالاهتمام بصحة المريض، هناك آخرون يحبون مهنتهم حقاً، يحبون المريض بالتالي. وهؤلاء معدودون، أعضاء في نادي، يضم نوعاً آخر من “الأقوياء”: نرجو من الصميم أن يكون نادياً مغلقا على نداءات الفساد الصادرة من خارجه، بأشكالها وأقنعتها المختلفة… ومنفتحاً على المجتمع والناس، على الإنسانية جمعاء.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل
تلك الصحّة الذاهبة أدراج النجومية والنفوذ
سيدتي الكريمة.. الطب حاله حال غيره من المهن في بلداننا، صار مجرد حروف في حقل المهنة في هوياتنا نحن الاطباء .. وظيفة عادية. في بيئة عمل بائسة في الغالب فلا حقوق ولا عدالة. و من يحبون مهنتهم حقا فهم جد محبطون. و معزولون. و يفكرون يوميا بترك بلدانهم والهجرة الى العالم المتقدم. حيث يشعرون بالانصاف أو هكذا يأملون. لذا لا تستغربي ما رأيتي و ما أحسستي.. فالطبيب الحقيقي.. و الطب كعمل انساني.. مهمشان و متواريان ” بقوة النظام” !