عندما تلتهب المعارك في المناطق السكنية يهرب النساء والأطفال بحثاً عن مكان آمن، لتبدأ رحلة أخرى من القلق والعذاب.. دلع المفتي زارت عائلات سورية لجأت إلى لبنان وأجرت تحقيقاً عن أوضاعها.
إن أصابك مكروه في منزلك، أول من تفكر فيه هو جارك.. تناديه، تستنجد به وتلوذ بحمايته، راجيا معونته التي قد تصل إلى أن تلجأ إليه. وهذا ما يحصل عادة في المناطق الساخنة والأراضي الملتهبة التي تدور المعارك فيها، يهرب المدنيون وأغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن إلى أقرب حدود آمنة، وما يحصل مع اللاجئين السوريين في دول الجوار ليس استثناء من قاعدة حق الانسان في البقاء، وبتوافر ظروف آمنة لاستمرار حياته.
وكما في تركيا والأردن، وإلى حدّ ما في العراق، يبدو أن أعداد اللاجئين السوريين في لبنان تعدى ما توقعته السلطات والأهالي على السواء. فهناك عشرات الآلاف من العائلات من مختلف المناطق السورية نزحت إلى الاراضي اللبنانية املا في ملاذ آمن بعيد عن ويلات الحرب. نساء ورجال، شيب وشباب.. والاكثرية أطفال لم يجدوا ملجأ لهم سوى جارتهم الأقرب.
خلال تجوال في ليلة من ليالي بيروت الجميلة، وفي شارع الجميزة الشهير بمطاعمه ومقاهيه المزدحمة بالرواد الذين يفضلون المشي على أحجاره القديمة عن ركوب السيارات، لمحت روّادا من طراز آخر: أقدام صغيرة لا توحي أنها لزوّار أو سائحين، تسير بلا هدى، بعكس كل المتنزهين.
بائعة الورد
تابعت جلبة الأقدام المتعثرة، فرايت طفلة تبكي، وتمشي كما لو كانت ضائعة أو أضاعت شيئا ما. استوقفتها بصوت حنون، فأنا أعرف أن هؤلاء الأطفال، يستفزهم أي سؤال ويرعبهم كل تحقيق: ما بك يا صغيرة؟ عمَّ تبحثين؟.. أجابتني بلوعة: أعطتني سيدة 5 دولارات وضاعت مني. أخذتها من يدها وحاولت أن أهدئ من روعها بسبب النقود الضائعة وربتُّ على كتفها: «لا بأس.. سنتدبر الأمر».
«دينا» طفلة في الثامنة، لا تختلف عن أي من الأطفال في عمرها، لكن بفارق، انها تعيش في الشارع، لتبيع الورد على المارة. جميلة، حنطاوية البشرة، عيناها خضراوان وشعرها فاتح، ثيابها خفيفة يغطيها جاكيت ليحميها من برد المساء. خلفها يمشي رشيد (13 عاما)، ابن خالتها الذي يبدو أن مهمته حمايتها، بالإضافة إلى حمل دلو الورد الثقيل نسبيا. عائلتاهما نزحتا من سوريا منذ 5 أشهر بعد ان اشتد القصف على حلب. لها شقيقان، واحد توفي منذ فترة قريبة، والآخر معتقل في لبنان بتهمة التسول.
سألت دينا: ألا تخافين أن يعتقلوك أيضا؟
أجابت: لا أنا صغيرة، قلبهم لن يسمح لهم.
توجهت إلى رشيد بالسؤال عن «عملهم»، فأوضح: أشتري الورد من جسر المطار.. الوردة بخمسمائة ليرة، ونبيعها هنا بألف. نبدأ مشوارنا في العاشرة مساء، ونستمر حتى منتصف الليل او بعده قليلا، وفق الزبائن والشغل. نعتمد على السهارى الخارجين من المطاعم والمقاهي.. هؤلاء كرماء جدا، وخاصة في آخر الليل. إن خلص الورد.. نذهب إلى البيت.
استفسرت منه عن ظروف سكنهم، قال: عائلاتنا تسكن في مخيم صبرا، وبعد انتهاء «دوامنا» نأخذ الغلة، ونذهب لنسلمها لهم.
اندلاع الحرب المناطقية
وأثناء حديثي مع دينا ورشيد، اقترب شاب مراهق يبدو أكبر سنا، ثار رشيد وراح يصرخ به لكي يبتعد. حاولت أن أهدأ من عراكهما الذي يبدو أنه تقليدي، وطلبت منهما الكف عن الصراخ، غير مدركة ان هناك حربا «مناطقية» بين الأطفال حول توزيع نقاط انتشارهم في الشارع. فكل طفل يملك مساحة من الزقاق، وغير مسموح لغيره أن يقترب منها.
هاني، في الخامسة عشرة من عمره، ومثل رفاقه نزح من سوريا مع عائلته منذ أشهر. عندما بدأ هاني الكلام، لاحظت أنه يعاني من متاعب في اللفظ، ربما تأتأة بفعل عوامل النمو أو التوتر، لكن كلامه كان يتأخر عن الآخرين بشكل واضح. ومع ذلك بدأت حديثا وديا معه لأخرج «المجموعة» من توترها.. ومن دون أن اسأله بشكل مباشر، فهم أني اود لو يشرح لي دوره في هذا المكان، فبادر بالجواب: «بدنا نعيش، أهلي ما معهم قرش… شو بدنا نعمل؟ كيف بدنا ناكل؟ بصراحة أنا ما بدي أتسول ولا بيع الورد، أنا بدي أتعلم». فوجئت بكلام الصبي، فأكمل: «عندما أتوا لعندنا (يقصد اللبنانيين)، فتحنا لهم بيوتنا، وشلناهم على روسنا، نحن ما بدنا منهم شي.. بس يفتحوا لنا مدارس.. بدنا نتعلم».
دمى بشرية
انتقلت من الجميزة إلى شارع الحمرا، وفي زقاق متفرع من الشارع الرئيسي، حيث تكثر المطاعم والمقاهي، وجدت شلة من الشباب والبنات مجتمعين حول طفل لا يتعدى الثامنة من العمر. شعرت بأن شيئا ما يدور هناك، هيئة الطفل وثيابه الرثة ولون وجهه المصبوغ بالشقاوة والشقاء، أكدت لي أنه نازح سوري، وصدق حدسي. وقفت بعيدا عنهم أراقب الوضع، كان الشباب والبنات يسخرون من الطفل ويتلقفونه من يد إلى يد.. حتى أن واحد منهم حمله ورماه عاليا في الهواء ليعود ويتلقفه وهو غارق في الضحك.. بينما الطفل يتصنع الفرح، ويسمح لهم بأن يسخروا منه و«يلعبوا به»، طمعا بما ستجود به أنفسهم بعد الفاصل الساخر.
وبالفعل، انتهوا منه ووضعوا في يده بضع ليرات، اخذها وركض.. فتبعته. وأمام مطعم مغلق وجدت بضعة كراسي جلست على احدها، وطلبت منه أن يجلس على آخر بجانبي لأحدثه، فما كان منه إلا ان جلس على الأرض، طلبت منه أن يجلس جانبي، فلا يوجد احد هنا والمطعم مقفل، قال: «ما بيصير.. ممنوع». وطالما ممنوع أن يجلس على الكرسي، قررت أن أشاركه الأرض، فهي ملكنا جميعا، ولا أحد بمستطاعه منعنا.
هذا الفتى المفعم بالحيوية، ذو الابتسامة الساحرة، اسمه حسين، هو الطفل الخامس في عائلته، التي نزحت إلى طرابلس، والتي تعيش في خيام في الشمال اللبناني، تاركين خلفهم كل ما يملكونه.
بدأت حديثي معه: أهلك في طرابلس، وأنت ماذا تفعل في بيروت يا حسين؟
أجاب وبجدية: «بدي أشتغل».
كتمت ابتسامة مرّة.. وحاولت ان أفهم منه كيفية وصوله إلى بيروت.
قال: «كل خميس نركب أي وسيلة مواصلات لتحملنا من طرابلس الى بيروت، نقضي هنا ثلاثة أيام (أيام عطلة نهاية الاسبوع اللبنانية) نبيع فيها العلكة على الناس، وفي نهاية العطلة نعود الى أهلنا».
السؤال الأهم الذي تبادر إلى ذهني كان: «أين تنام يا حسين في بيروت؟» فما كان منه إلا أن سحبني من يدي وأخذني عبر أزقة شارع الحمرا الخلفية ليريني غرفة نومه. وصلنا، أمام مدخل عمارة، وفي زاوية تفوح منها كل الروائح الكريهة، على الرصيف توجد «فرشة» وسخة، مهترئة، ارتمى عليها حسين قائلا، أنام هنا وأصدقائي وكل من يأتي معنا.
قلت: «كيف تواجهون البرد؟».
التفت يبحث عن شيء ما، وعيناه تجوبان الأرض، وأجاب: كانت عندي بطانيات (كراتين) أتغطى بها، لكن الله يسامحهم الظاهر اخذوها مع الزبالة.
عندما قام حسين من «فراشه»، بدا على وجهه الألم، سألته ما بك؟ لم يجب وراح يهمس لصديقه بأمر ما، بدا مرتبكا، عدت لأفهم ما الموضوع، فوجدته يلتقط ورقة من الأرض يشقها، ويدخلها في بنطلونه إلى ساقه، أخرجها فكانت مغطاة بالدم. فزعت، قلت ما الأمر، قال: كان هناك زجاج مكسور بجانب الفرشة، وربما دخلت قطعة زجاج في ساقه، طلبت منه أن يريني الجرح فلربما يحتاج لتضميد أو علاج سريع، رد على قلقي بابتسامة رجل تدرّب على الشقاء.. وقال: «ما في شي، بكرة بيطيب». أصررت على أن أتفحص الجرح، لكنه رد بصوت مرتفع: «عيب… غمضي عيونك وأنا أخلي صديقي يشوفه».
الخوف من الدرك
لحسين صديق «يداوم» معه ويتقاسم معه الفرشة واللقمة والغلة، علي في الثالثة عشرة من عمره، له أختان وثلاث اخوان، وأهله أيضا يعيشون في مخيمات طرابلس من دون دخل او معيل. سألته كم تقبض يوميا، قال حوالي 15 ألف ليرة، ما يعادل 10 دولارات من بيع العلكة. أتكفيك يا علي؟ قال: «كله من الله منيح».
قلت ألا تخافون؟ فأجاب نخاف من الدرك (الشرطة اللبنانية)، ان ظهروا نختبئ في مداخل العمارات.
سألت: ألا يؤذيكم أحد.. أوضح لي: لا.. الناس طيبون هنا، منهم من يتصدق علينا بصندويشة، منهم من يعطينا كم ليرة.. وبيمشي الحال. نحن لا نؤذي أحدا، وبنسمع الكلام.
إلى البحر
لقد كانت هيئة هؤلاء الفتيان والفتيات مؤثرة جدا، ولأنهم يعيشون في الشوارع ويلتحفون الكراتين وأي شيء متاح، فقد حملوا كل أوساخها وتعبها ومتاعبها.. وكأن الماء لم يلامس أجسادهم لأسابيع،
سألتهم: أين تستحمون يا أولاد؟
فهتفوا بصوت واحد: في البحر.
وأكمل حسين: «هو الوحيد الذي يسمح لنا أن ندخله من دون اذن».
إلى البحر إذا؛ أيها الفتية.. فهذه الأرض تلفظكم إليه.. هناك ستحنو عليكم امواجه، ولن تسألكم سمكاته عن خطط الساسة لحل ازمتكم، ولا محاره يهتم بجنسيتكم، ولا بدينكم، ولا بطائفتكم.
اغسلوا في البحر يا صغار عار الكبار، وانسوا ولو للحظات، ذكريات أجسادكم وأرواحكم المؤلمة.
d.moufti@gmail.com
* كاتبة كويتية
نقلاً عن “القبس”
أطفال سوريا.. على أرصفة لبنانكم اضحكتني الروايه قبل احداث سوريا تجارة الاطفال السوريين منتشره على قدم وساق في سوريا ولبنان فهم يؤمنون مصدر دخل جيد لعائلاتهم …… وخاصة ان هناك مايمكن القول عنه انفجار سكاني اذ سجل احد المخيمات للنازحين على الحدود التركيه اكثر من الف ولاده جديده ( طبعا سمي البعض من المواليد اردوغان وحمد )…. ما اود التوجه لقوله ان عطف الكاتبه جعل الدموع تنفر من عيني لوووووووول طيب ليش مابتكتبي عن امراء الحرب سلفيي الكويت والاسلحه والاموال التي يقدمونها الى ثوار الذبح والقتل باسم الله واكبر لماذا لاتنتقدين زيارة سلفيي الكويت الى الحدود الشماليه لسوريا مع شحنات… قراءة المزيد ..
أطفال سوريا.. على أرصفة لبنان
وين العرب اللي بتغنوا بالعروبة وين الخطابات والشعارات العربية اللي دوشوا العالم فيها وين الشرف العربي اذا لسة في عندهم . وين خير امة اخرجت للناس وملايين الدولارات
أطفال سوريا.. على أرصفة لبنانعيب أن يتسلق الانسان على جراح الآخرين لتحقيق شهرة زائفة ، المشكلة أكبر من توصيف سخيف يستعمل به صور بلاغية ركيكة لإضفاء ظلال من الكآبة والحزن على أوضاع انسانية مخزية ، وماذا بعد لقاؤك مع بطل الرواية الذي لم يتجاوز الثامنة من العمر ، هذا البطل الموهوب الذي يستطيع ان يغادر من طرابلس الى بيروت ( بأي وسيلة نقل ) ويقضي بها ثلاثة أيام ثم يعود لبيروت بما جناه لأهله ، وهذا مايعجز عنه الشباب في بلدهم فكيف بهذا الغرير الذي بينه وبين سن البلوع عقد من الزمان ؟ لقد كان الإبداع التوصيفي في أوجه عندما… قراءة المزيد ..