في روايته ما قبل الأخيرة، “بدايات”، يلخص أمين معلوف نقاشاً عائلياً لا يخلو منه أي بيت لبناني، والمستمر منذ أكثر من قرن، تبعاً لأحداث الرواية نفسها: فهي تحكي قصة جدّه وشقيق جدّه، الأول المتشبث بالبقاء في لبنان، رغم كل الإضطرابات؛ فيما الثاني لا يكتفي بالهجرة الى كوبا، إنما يغري أخيه أيضاً بالإنضمام اليه. ينجح موقتاً بإقناع أخيه، فيقوم هذا الأخير بالسفر، ويأخذ طريقه الى العاصمة الكوبية هافانا. لكن “شيئاً” ما، لم يفصح عنه طوال حياته، أعاده الى الجبل اللبناني، حيث أمضى بقية حياته، لا تزحزحه مصيبة ولا قلّة ولا عوز. أما الرسائل التي يتبادلها الشقيقان طوال الرواية، فتنطوي على حجج كل واحد منهما في البقاء والرحيل؛ حتى الأخبار العائلية تعبرها الحجج تلك، احياناً مثل الخيط الدقيق، الذي يحتاج إلى مثيله ليتبلور “الموقف”.
لكن المدهش في الموضوع، أن مضامين هذه الرسائل هي نفسها تلك التي يعتمدها اللبنانيون، جميع اللبنانيين، حتى الذين لم يذوقوا أهوال الهجرة، ولكنهم يعبّرون ليل نهار عن طوقهم اليها. رسائل أمين معلوف لا تحتاج الى “تحديث” ولا “تبييء” (من بيئة)؛ خذها كما هي الى أي بيت لبناني وسوف تجد صداها في السؤال التقليدي، الأكثر عراقة بين أسئلة اللبنانيين: نبقى أم نرحل؟ كيف؟ متى؟ لماذا؟ إضافةٌ واحدة عدّلت مشهد الرحيل، لا تعبيراته: أيام جدّ أمين معلوف، أي في بداية القرن الماضي، لم يكن للنساء حظ في التفكير بالهجرة، منفردات…
أما الآن، وقد صارت الأحوال أسوأ مما كانت عليه في زمن الأجداد وأخوتهم، فإن عدد المهاجرات بمفردهن يتعاظم سنة بعد أخرى. أي ان الجنسين آخذان طريقهما الى المساواة في هذه الناحية المؤلمة بالذات. بحيث تصل بنا الأيام الى لحظة نفتقد فيها الى شاباتنا، بعدما تناقص شبابنا؛ ويتحول لبنان الى أرض المسنين الذين ينعشون الإقتصاد الوطني بالأموال الآتية من أبنائهم أو أحفادهم. وهذه على كل حال من أقل الاحتمالات سوءاً.
الذي أتى على ذكر رواية أمين معلوف هو تلك “الحملة”، التي تجتاج البيوت والإذاعات والتلفزيون، وكلها تدور حول الموضوع نفسه، وقد أطلقت العائلات النقاش حوله: “نبقى هنا، أو نرحل؟”، أو “هل تبقون؟ أم تلتحقون بنا؟”. وهو الأكثر شفافية، لا تذويق فيه، ولا معسول الكلام. الحجة فجّة، المخاطر محتملة على الحياة والإستقرار… في الاذاعة، برامج بعينها صارت سؤالها واحد للمستمعين: “هل تبقون في لبنان؟ أم تذهبون؟”، فإجابات الشعر والزجل عن لبنان… وتشجيع المذيعة، بل وقوفها كالسدّ المنيع ضد أية كلمة يمكن ان تحبط هذا “التشبّث بالأرض”؛ بعض السياسيين الشجعان، الذي يطلقون هنا وهناك دعوات للبقاء، وغزلٌ آخر بلبنان، لا يتناغم أبداً مع عنف الصراع الذي يخوضونه، بالمقابل، من أجل الاحتفاظ بأعزّ ما غنموه من هذه الحياة، أي السلطة.
صحيح ان شيئاً لم يتغير منذ أن تبادل الجدّان الرسائل في رواية أمين معلوف، وان اللبنانيين كلهم يتنازعهم قطبَي الرحيل أو البقاء. ولكن، فوق ظاهرة الشابات المهاجرات، شيئان تغيرا عن بداية القرن الماضي: أوله السهولة الفائقة للهجرة، ليس من حيث سبل الإنتقال، أو طبيعة معاملات الوصول، التي تسارعت وتقننت في العقود الأخيرة. إنما في سهولة الاندماج بالمجتمعات المضيفة، والانخراط في شجونها الكبرى أحياناً، وفي تيسّر طرق العيش، وأحيانا اخرى الثراء ايضاً. في الرسائل التي يبعثها شقيق جدّ معلوف الى أخيه وصف للمراحل التي قطعها في جمع ممتلكات جعلته وجيهاً من وجهاء كوبا في تلك الأيام…
الهجرة في أيامنا هذه تضاعفت، عالمياً كذلك، حركة المهاجرين تضم الملايين من البشر، يبلغون مرساهم بأوراق “شرعية” أو من دون أوراق. يفرّون من بلدانهم أملاً بما يكفيهم كفاف يومهم، أو بما يرفعهم درجة اجتماعية، أو لينعموا باستقرار ما، يجعل موتهم قتلاً أو جوعاً اقل احتمالاً. ولا يلاقون الآن، بجموعهم، إلا ازمة اقتصادية، ركود، بطالة، تقشف، تضخّم… يضيق بهم أصحاب تلك البلاد انفسهم؛ ثم أنظمة وقوانين ضيقة، واستغلال اقصى لها، وطبعاً عنصرية ويمين متطرف صاعد الخ. هل كان العالم أهنأ حالاً مما هو اليوم؟ هل يختنق العالم ليحوّل هجرة ابنائنا وأبناء غيرنا من معذبي هذه الارض روايات عن هائمين على وجههم؟
الشيء الثاني الذي تغير عن القرن الماضي، هو أسباب هذه الهجرة: كانت ضئيلة، قليلة، تكاد تكون تافهة، لو قورنت بأسباب اليوم. جدّ معلوف كان قلقاً من اضطرابات ومن عوز، لم يحولا دون قيام مشروعه التعليمي، ودون موته ميتة “طبيعية”، لا قتلا ولا حرقا ولا ذبحاً… اما نحن الآن فيكاد خيالنا لا يتّسع لهول ما ينتظرنا في المقبل من ايامنا، لا على المدى المنظور، ولا غير المنظور. ما يحرّك دوافعنا للهجرة، ليس “غياب الدولة”، الذي اعتدنا عليه، وحوله بعضنا الى نكتة “وينية الدولة؟”. ولا أزمة بطالة، أو ركود… نتشاطر عليهما كلها، بهمّة الفساد وانعدام الروادع والفوضى الشاملة والزبائنية… ولا تشبّع هواؤنا بإنبعاثات العوادم وسماؤنا بالباطون، وانقراض خضارنا… وهي وحدها، على كل حال، كافية لهروب أي مواطن من بلاده…
إنما الذي يحفزنا على الهجرة، ويضع فكرتها في صميم نقاشاتنا الشخصية والعامة، هو طبيعة ما لا نستطيع تخيل أننا مقبلون عليه: فنحن أمام شبح جديد على ذاكرتنا المعاصرة. ليس هناك ما يشبهه تماماً في هذه الذاكرة. قد تتجاوز أهوال مذابح ستينات وثمانينات القرن الذي قبله، التاسع عشر. تلك التي نجا منها آباء أجداد أمين معلوف، وأعتقدَ من “بقي” منهم انهم خلصوا منها الى الأبد، فتأرجحوا، بين هجرة وبقاء، ولكنهم تفاءلوا…
شبحٌ لا يشبه حربنا الأهلية الماضية، العزيزة، والتي كانت محصورة بيننا، لم تصب ارتداداتها جيراننا. “حرب الآخرين في لبنان”، هكذا كان يفسر بعضنا عدم اصابتها الاقطار الشقيقة والمعادية، وانحصار دمائها وخرابها باللبنانيين وحدهم. ولا هو، أي الشبح، يشبه عدواناً اسرائيلياً كلاسيكياً، من ذاك الذي بنينا على انقاضه بطولات محلية… لا، لن يكون الأمر الآتي على هذه الدرجة من “التواضع”. وبشائره تطلّ، ما علينا سوى تسجيلها. وهي تتراوح بين حدّين: الأول، الأقل خطورة، ان يكون لبنان في طريقه للتحول إلى مجرّد مكان، حدوده مفتوحة على مصراعيا، وعشوائياً، على كل ارتدادات الحرب في سوريا؛ جميع أنواع الارتدادات يعني. الانسانية والاغاثية والعسكرية والأمنية، والأقل خطورةً من الثلاث، السياسية. أي، نوع من الفوضى التي “تعسّ”، باقية على نار خافتة، تقتل ببطء شديد، الروح قبل كل شيء؛ روح لبنان ومعناه.
أما الحدّ الأقصى، فيلوح أيضا في الأفق: وهو ليس أقل من الدخول في فوضى مسلحة ممتدة الحدود هذه المرة، تأتي من سوريا أو تذهب اليها. ليختلط حابل المذهبية بنابل الحدود المفتوحة، ويتحول لبنان الى “لا مكان”، لا يجمع بين القاطنين فيه غير الطقس الجميل…. وخارج ذلك، شبح عديم الملامح من الموت والخراب، فوق خراب الحروب التي أكلتها الرطوبة والعفن…
كاتبة لبنانية
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل
لبنان بين المكان واللامكان…
تبدو مقالة العزيزة الكاتبة دلال البزي غريبة بعض الشيْ ! تبدو خارج سياق أولى نسمات الربيع الدمشقي التي وصلت بيروت و تمثلت بعجز عدو لبنان الاساسي ( نظام آل الأسد و ملحقاته ) عن التدخل. تبدو متشائمة !