أجساد النساء هي أقدم الأراضي العربية المحتلة. لم تندلع أو تنشأ باسمها حروب أهلية، ولا حركات للتحرر الوطني، ولا جبهات للإنقاذ، ولا ثورات شعبية، ولا أنظمة مناضلة، أو حكومات في المنفى.
وقع الاحتلال منذ زمن مفرط في القِدم، وتجلى في سرديات ملتبسة، وتواريخ غامضة، وشواهد تراكم عليها غبار القرون. في الظلال الشاحبة للميثولوجيا اختبأت صور، وتحت جلود النساء تحصّنت ذاكرة تحالفت مع مكر الجينات، وانتظام دورة الطبيعة، وثورة الهرمونات، وخبرات قرون من حرب العصابات، والعمل وراء خطوط “العدو”، والمقاومة السلمية.
الثقافة ضد الطبيعة. بل هي طبيعة مضادة وظيفتها الرئيسة ضبط وتقنين الغرائز. وهذا يستدعي إمكانية انفصال الإنسان عن مملكة الحيوان رمزياً وفعلياً، ولا يتأتى دون بلورة آليات للرقابة والتشريع. جعل هذا الشيء أو ذاك ممكناً ـ وبقدر ما يتعلّق الأمر بفكرة الانفصال عن عالم الطبيعة، وهي جوهر الثقافات في أربعة أركان الكون ـ مصدر قلق دائم. لذا، الإمكانية مشروطة، دائماً وأبداً، بتوفير الآليات.
أنجع آليات الرقابة تلك التي تجتهد في التخفي. وإذا استخدمنا جسد الإنسان كوسيلة إيضاح، نعرف أنه مزوّد بجهاز للمناعة، ومنظومات متعددة الوظائف للحفاظ على وإعادة إنتاج النوع.
الغاية القصوى للثقافة الجمعية أن تعمل بالطريقة نفسها: خلق منظومات للحفاظ على خصوصية الجماعة وإعادة إنتاجها، وإنشاء وتشغيل جهاز للمناعة الذاتية. بهذا المعنى يمكن أن نعيد النظر في اللغة، والمفاهيم، والقيم، وشبكات القربى، والعادات، والتقاليد، والتنظيم الاجتماعي، والسلطة السياسية. كل هذه الأشياء مسكونة بآليات رقابية، بعضها صريح وفصيح، والبعض الآخر يختفي وراء ألف قناع.
لا توجد، بالطبع، ثقافات خالصة. فهي كالأهرامات المصرية طبقات، فيها غرف مظلمة، وسراديب، وألغاز تحرّض على المعرفة وحب الاستطلاع. ولكنها ليست كينونة تاريخية تجمّدت في الزمان والمكان. بل هي في حراك دائم. ومحرّك هذا الحراك، ومنطقة عمله في كل زمان ومكان: جهاز المناعة، ومنظومات الحفاظ على النوع وإعادة الإنتاج. وهذه تنشط، بشكل خاص، في كل احتكاك مع الخارج والوافد والمُجَدِد (وكل مُجدِدٍ مُهدِد).
يصبح كل كلام عن الثقافة ضحلاً ما لم نضع في الاعتبار ما تنطوي عليه من آليات للرقابة والتشريع، وديناميات للتخفي والخفاء في اللغة، والمفاهيم، والقيم، والتقاليد. الخ. وهذه، كلها، بلا معنى، تقريباً، ما لم تُقرأ باعتبارها في صميم فكرة السلطة، المُنتجة والمالكة لآليات الرقابة والتشريع، بداية من أصغر أشكال السلطة الأبوية وانتهاء بقمة الهرم السياسي. بكلام آخر، وطالما موضوعنا أجساد النساء: كل إنشاء للذكورة والأثونة (وكلاهما متغيّر ومُتخيّل ومُلفق ونفعي) مشروط بالسلطة، سواء تكلمنا عن القرن العشرين قبل الميلاد، أو عن القرن العشرين بعده.
كانت إمكانية الانفصال عن عالم الطبيعة، وما تزال، مصدر قلق في كل ثقافات الكون. هذا لا يفسّر ما عرفته البشرية من قيود وتقييدات وتشريعات ورقابات وسلطات. بل هذه كلها تفسر القلق. وهذا، بدوره، لم يتجمّد في الزمان والمكان، بل طرأت عليه في أماكن مختلفة من العالم تغيّرات كثيرة نجمت عن، وأسهمت في، تغيير مفهوم وبنية السلطة.
وإذا شئنا الكلام عن منطقة من العالم يثير فيها القلق ما لا يحصى من تجليات الذعر والهذيان والانفصام، فلن نجد وسيلة إيضاح أفضل من العالم العربي. هنا، قلق تجمّد في الزمان والمكان منذ قرون، وتجمّدت معه آليات الرقابة المرئية والخفية التي نجمت عنه، وسكنت اللغة، والتقاليد، والقيم، والذاكرة.
مصدر الذعر المغايرة، أي الاحتكاك القسري بالخارج والوافد، وإقصاء المُجدد (والمُهدد). ومع هذا كله، وفوق هذا كله، ما أصاب بنية السلطة المالكة لآليات الرقابة والتشريع من وهن، وأحياناً من إقصاء، نجما عن صعود الدولة القومية الحديثة.
أبلغ دليل على اطمئنان الثقافة لمناعتها الذاتية يتمثل في تخفي وإخفاء آليات الرقابة، وفي المرونة، والقدرة على التأقلم، وتأمل صورتها في مرآة الزمن. وأبلغ دليل على وهنها، وكينونتها العُصابية، يتمثل في حاجتها الدائمة إلى إشهار آلياتها الرقابية، وحتى تسليحها بالميليشيات والانتحاريين، والعمل على استعادة مفهوم وبنية ما ألفت من سلطات، لتمكينها من فرض ما تجمد في زمان ومكان بعيدين بقوة الدولة. وهذا ما يحدث الآن مع وعلى هامش وفي ظل موجة الربيع العربي، التي زادت من مشاعر الذعر، لأن المذعورين أنفسهم أصبحوا في سباق مع الزمن.
وفي سياق ما يحدث، ونتيجة ما يحدث، وفي صميم ما يحدث، تأتي صبية تونسية اسمها أمينة، تكتب على نصفها الأعلى، الذي تضع صورته عارياً على الإنترنت: “جسدي ملكي وليس مصدر شرف أحد”.
تختزل هذه العبارة، وتفسّر، كل ما تقدّم: العلاقة بين الشرف والجسد، مثلاً (وكل آلياتها الرقابية تسكن اللغة، والتاريخ، والتقليد، والقيم. الخ) والعلاقة بين الملكية الفردية والجمعية للجسد (وكل آلياتها الرقابية تسكن اللغة، والتاريخ، والتقليد، والقيم. الخ)، ومثلاً، ومثلاً، العلاقة بين الوظائف المختلفة للجسد: الإنجابية والإيروسية، والاجتماعية.
كل تساؤل حول تاريخية ووظيفة هذه العلاقات يفتح سردايب مظلمة في بنية ومفهوم السلطة في العالم العربي (والنظام السياسي، إذا شئت) ويُنذر بما يخطر وما لا يخطر على البال من ردود عصابية، وتجليات للذعر، ربما قادت البعض إلى حروب أهلية.
الموضوع، باختصار، عن أجساد النساء باعتبارها أقدم الأراضي العربية المحتلة.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
(صورة المقال: “الباريسيات” لـ”ماجدة خطاري”)
أجساد النساء، أقدم الأراضي العربية المحتلة..!!الى العبقري حسن خضر قرأت مقالك الممتع والذي اعطيته زخماً اكثر من اللازم بادخال مصطلحات عليه لتدويخ القاريء واقناعه بجهله وقلة ثقافته بمثل هذه المصطلحات البيولوجية والانطولوجستية والابستمولوجيا …. هل يكفي ذلك ام ازيدك ؟ والذي اريد الوصول اليه بناء على دفاعك المستميت عن كساس النسوان هل يحق لي بناء على مقولتك ان اصور نصفي السفلي عارياً وأضعه على النت واضع عليه لافتة تقول : هذا زبي وأنا حر فيه . سأروي لك قصة واقعية حدثت في قضاء احدى الدول العربية : اوقفت داعرة ( شرموطة ) وبدأ القاضي باستجوابها عن سبب معاطاتها للدعارة فقالت… قراءة المزيد ..