في زحمة الاحداث العالمية المتسارعة لم يلتف الكثيرون إلى ما حدث مؤخرا بين ماليزيا والفلبين من مناوشات قابلة للتوسع واشعال حرب شاملة بين البلدين الجارين، إذا لم يتم تدارك الموقف.
بدأت القصة في فبراير المنصرم حينما وصلت مجموعة فلبينية مسلحة مكونة من235 مقاتلا من المسلمين الذين يطلقون على أنفسهم “الجيش الملكي لسلطنة سولو” إلى قرى في شمال شرق ماليزيا قادمين من جنوب الفلبين في قوارب صغيرة ، وذلك في محاولة عبثية طائشة لإعادة إحياء مملكتهم الغابرة، مدفوعين بطموحات وأحلام شخص يزعم بأنه وريث مملكة سولو المنقرضة، وهو “جمالول كيرام الثالث” الذي قال في مؤتمر صحافي من مقر إقامته في مانيلا أنه المسئول عن إرسال المجموعة المقاتلة إلى ماليزيا، وأن المجموعة بقيادة أخيه “عجيب الدين كيرام” وتضم إبنه وولي عهده، وأن أتباعه سيواصلون القتال حتى آخر رمق.
وعلى مدى الاسابيع الفائتة من فبراير ومارس ناشدت مانيلا هؤلاء بالعودة الى بلادهم والكف عن خلق المشاكل مع ماليزيا، فيما راحت الأخيرة تبعث لهم برسائل مفادها انها لن تقف مكتوفة الايدي طويلا امام انتهاكم لسيادتها والاعتداء على اراضيها ومواطنيها، وأن عليهم إلقاء السلاح دون قيد أو شرط، والعودة من حيث أتوا مقابل عدم التعرض لهم. غير أن المقاتلين لم يبدوا تجاوبا، الأمر الذي قررت معه قيادة الجيش الماليزي شن غارات جوية عليهم باستخدام طائرات “إف 18” المقاتلة ومروحيات “هوك” القاذفة.
ولا يعرف على وجه الدقة حصيلة هذه الغارات، وما صاحبها من عمليات تمشيط وتعقب برية في ولاية صباح، حيث إكتفت المصادر الحكومية بالقول أنها نفذت عمليات عسكرية مثمرة للدفاع عن سيادة البلاد، فيما قالت مصادر المقاتلين ان عملية الجيش الماليزي كانت فاشلة بإمتياز.
وفي محاولة من البلدين لتدارك تداعيات هذه التطورات على علاقاتهما، ومصير نحو مليون نسمة من الفلبينيين العاملين في ماليزيا (800 ألف منهم يعملون في ولاية صباح وحدها) تم رصد رحلات دبلوماسية مكوكية بين مانيلا وكوالمبور سعيا وراء التهدئة، كما تم رصد قيام السفن الحربية الفلبينية بدوريات على طول الحدود البحرية المعقدة، وذلك للحيلولة دون تدفق المزيد من المقاتلين الفلبينيين نحو ولاية صباح لمساعدة ودعم “الجيش الملكي لسولو”.
والخطوة الفلبينية هذه مهمة في ضؤ المعلومات القائلة بأن جبهة تحرير مورو الوطنية بقيادة “نور ميسوري”، وهي تنظيم مسلح يعمل منذ تأسيسه في 1969 من أجل إنفصال اقاليم الفلبين المسلمة الثلاثة (ميندناو، وبلاوان، وسولو) في كيان مستقل، منقسمة على نفسها، ولا تملك السيطرة على مقاتليها، بعد أن توصلت منافستها (جبهة تحرير مورو الإسلامية) إلى إتفاق – برعاية ماليزية – مع الحكومة الفلبينية في أواخر العام الماضي لمنح مسلمي جنوب الفلبين حكما ذاتيا واسعا.
ويقال أيضا أن “ميسوري”، على الرغم من تنديده العلني بما قام به ما يسمى بـ”الجيش الملكي لسولو” داخل ماليزيا من إحتلال للقرى وإخضاع لسكانها، فإنه قد عقد صفقة مع السلطان “جمالول كيرام” للوقوف في صفه ومده بالمقاتلين، مستغلا إمتعاض السلطان من عدم حصوله على ما كان يأمله من نفوذ ومكانة تليق به بعد مشاركته في إتفاقية السلام بين مانيلا وجبهة مورو الإسلامية في العام الماضي.
كما ان “ميسوري” حذر السلطات الماليزية من الإقدام على أي عملية إنتقامية ضد المدنيين الفلبينيين العاملين في صباح عن طريق مضايقتهم او طردهم، وحذر أيضا حكومة بلاده من التعرض للسلطان جمالول ومحاسبته على إرسال قواته إلى صباح. هذا ناهيك عن مساهمته مع آخرين من قادة القوى اليسارية والإسلامية والأحزاب المعارضة للرئيس الفلبيني الحالي “بنينو أكينو الثالث” في تنظيم المظاهرات المنددة بماليزيا أمام سفارة الأخيرة في مانيلا.
وفي ما خص المملكة التي يـُراد إحياؤها فإن المصادر التاريخية تذكر أن سلطنة سولو حكمت الأجزاء الشرقية من ولاية صباح لعدة قرون إلى أن قامت السلطات الإستعمارية البريطانية بإلحاق ولاية صباح بأكملها بالاتحاد الماليزي في 1963 . وقتها إعترضت الفلبين ممثلة في رئيسها الأسبق “ديوسدادو ماكاباغال” على ذلك زاعمة أن “شركة شمال بورنيو” الاستعمارية البريطانية إستأجرت تلك الأجزاء من أراضي صباح في عام 1878 ولم تشترها كي يكون لها الحق في التنازل عنها لمن تشاء. وإزاء هذا الاعتراض دعت ماليزيا وبريطانيا الأمم المتحدة للتدخل وإجراء إستفتاء عام في صباح، فكانت النتيجة تصويت ثلثي سكان الولاية لصالح البقاء ضمن الاتحاد الماليزي. وبمرور الوقت تناست مانيلا الموضوع حفاظا على الروابط والمصالح المشتركة مع كوالالمبور، والتضامن ضد المد الشيوعي في المنطقة خلال حقبة الحرب الباردة، خصوصا وأن كوالالمبور كانت قد نجحت في شراء صمت ورثة سلاطين سولو وترضيتهم بالأموال والاعتراف الرمزي بمكانتهم.
اليوم يعود سلطان سولو إلى المطالبة مجددا بتدخل الأمم المتحدة وبريطانيا في القضية، بل يطالب أيضا بتدخل الولايات المتحدة زاعما أن واشنطون تعهدت بموجب إتفاقية وقعتها إدارتها الإستعمارية للفلبين في عام 1915 بتقديم الحماية لسلاطين سولو مقابل السماح لها بفرض سيادتها على مملكتهم.
ومن المنطقي في مثل هذه الأحوال أن يتساءل المرء عن المستفيد ودواعي إثارة هذه القضية المنسية في هذا الوقت تحديدا!
وبطبيعة الحال فإن هناك أكثر من إجابة على السؤال. فالبعض يربط ما حدث بإستياء بعض الأطراف الفلبينية من إتفاقية السلام الأخيرة حول جنوب الفلبين المسلم، وبالتالي رغبتها في إفشالها بأي ثمن، حتى وإن كان الثمن توسيع نظاق التمرد الإسلامي ليشمل الجارة الماليزية المستقرة الآمنة.
البعض الآخر يربط ما حصل بالانتخابات التشريعية الصعبة التي ستشهدها ماليزيا الشهر المقبل، مشيرا إلى أن لزعيم المعارضة المثير للجدل “أنور إبراهيم” يد فيه بقصد خلق حالة من الاحتقان الداخلي وتصوير خصمه رئيس الوزراء الحالي “نجيب رزاق” بالقائد الضعيف. ودليل أصحاب هذا الرأي هو الصور التي ألتقطتْ ونشرتها المواقع الالكترونية لإبراهيم مع “ميسوري” في لقاءات قيل أنها بشأن تسهيل دخول المقاتلين الاسلاميين الفلبينيين الى صباح، علما بأن إبراهيم يقود إئتلافا معارضا يضم أحزابا إسلامية متشددة.
وفريق ثالث يؤكد أن للموضوع صلة بإحراج الرئيس الفلبيني بنينو أكينو، في الانتخابات الفصلية القادمة في مايو، والضغط عليه بهدف اصدار عفو رئاسي عن سلفه “غلوريا ماكاباغال أرويو” الخاضعة للاقامة الجبرية بتهمة تزوير الانتخابات، خصوصا وأن سلطان سولو كان قد خاض انتخابات مجلس الشيوخ في 2007 كحليف قوي لأرويو.
وفريق رابع يعزي هذه التطورات إلى قوى أجنبية لا تريد الإستقرار لماليزيا وتتخوف من تنامي روابط حكومتها الحالية مع الصين، فإستخدمت سلطان سولو وأحلامه التاريخية كأداة، بل وقامت بإثارته عبر التركيز على ما يحصل عليه من كوالالمبور من فتات خيرات ولاية صباح الغنية بالنفط والغاز (تنتج حقولها حوالي 192 ألف برميل من النفط يوميا ويوجد بها 30 بالمائة من إحتياطيات ماليزيا النفطية).
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh