ليس من اليسير احتياز روح العصر، والوقوف على منحنياتها ومساراتها المتعرجة. ينطوي الاستواء، الظاهر، على انقطاعات وتقاطعات وثنيات واستعادات واختزالات لا تستلفت أنظار المأخوذين بالعابر. بيد أن الذاكرة حاجبة للنظر، أحيانا، ومعيقة لإرادة معرفة كنه التحولات واصطناع قانونها وتاريخها العام. هل تساوي المعاصرة الزمانية، المعاصرة الثقافية؟ أم أن زمان الثقافة أكثر تعرجا والتواء من زمان السياسية أو من أزمنة التنظيمات الاجتماعية القائمة؟ هل تسمح الثقافة في لحظات التراجع، بالرؤية المستقصية لأعماق المشهد الثقافي الذاتي والغيري، وبالرؤية المطلة السابرة لخوافي النسق الحضاري العام للعصر عموما؟ ألا تمنع الثقافة أحيانا من المثاقفة المغنية والمغتنية بالذات والآخر في ذات الآن، ومن إدراك روحية العصور الحديثة؟
هل يكفي الامتلاء الدلالي، للتفاعل الحي مع عالم يصوغه الآخرون ويوجهون مساراته الحضارية؟ لا يتمكن الشاهد، أحيانا، من استقصاء كلية المشهد، يضغط موشوره المعياري، على رؤيته، فيحول الواقعة إلى طرفة، والإبستيمولوجيا والتقانة إلى مشهديات جمالية أخاذة.. يتحلل الشاهد من فتنة وغواية المشهد، ليختلي بالذاكرة الجماعية وبالبلاغة المعيارية، ويمتنع، بالتالي، عن مساءلة المشهد الثقافي أو العسكري أو الفني –الجمالي، عن شروط إمكانه، في تلك الأزمنة بالضبط، وعن المقدرة الصناعية والتقانية للآخر. ليس الشاهد انثربولوجيا أو ساردا للطرف والمدهشات إلا عرضا، لأنه منذور، أساسا، للمقايسة العالمة، و للمعاينة السابرة، و للاستقصاء الشامل للبنى ولتحولاتها، وللأزمنة وتراكبها، وللتقاطعات الثقافية بين الفضاءات المتوسطية إجمالا. وحين تقصر الآلة عن تحقيق المقصد، يبرح الخطاب دائرة التاريخ ليلج، هانئا، دائرة الميتا-تاريخ، أو يبحث عن السلوة في المستملحات.
لقد وقف محمد ابن إدريس العمراوي، على كثير من المستحداث “الوقتية”، بفرنسا، في زمان نابليون الثالث. وأبان عن قدرة توصيفية، لافتة، تذكر بالقدرات التوصيفية للرحالة الواصفين للمجالات الثقافية المخارجة للفضاء الثقافي الأصلي (ابن فضلان وابن بطوطة والبيروني. . . مثلا ). إلا أن التوصيف والإكثار من الاغرابيات، كثيرا ما يمنعان من طرح سؤال الإمكان ومقتضيات التحقيق، ومن سبر ماهية وروحية الأزمنة الحديثة. فمهما أنعم النظر واستجلى مواطن “الترقي” في الاجتماع الفرنسي، فإنه لا يعين بدقة، المستتبعات العملية لذلك الترقي بالذات، ولا التفاعلات الناتجة عنه، مركزيا وطرفيا على السواء. والحقيقة أن محمد الصفار التطواني أبدى تحسسا حادا، من تلك المستتبعات، في نصه الرحلي الهام. (. . . ولهم تشوق لأخبار النواحي ومعرفة أحوال البلاد وأنواع التجارة والفلاحة والعمارة وفد أكثروا السؤال عن العلوم والكتب وسؤالهم عن علم الهندسة والهيئة والتنجيم واللغات أي لغة كانت، وعن كتب التاريخ والسير والحكم والأدب وكتب الحكايات، وقد ذكروا لنا أنهم ترجموا كتبا عديدة من كتب الإسلام باللغة الفرنصاوية مثل كتاب “آداب الكتاب” لابن قتيبة وكتاب “الأمثال” للسمعاني و”القاموس”، وكتاب “ألف ليلة وليلة” ويشترون من كتب المسلمين الكتب الرفيعة ويتغالون في ثمنها ويشترطون جودة الخط وصحة الضبط.) (محمد ابن إدريس العمراوي –تحفة الملك العزيز بمملكة باريز –تقديم وتعليق : زكي مبارك-1989-ص. 41) عاين العمراوي التطعات الثقافية لمثقف ما بعد عصر الأنوار والثورة الفرنسية، واهتمامه الدقيق بالثقافة العربية –الإسلامية، العالمة والشعبية معا.
فلماذا اهتمت أوروبا، الوضعانية والتاريخانية، بدراسة ثقافة وتاريخ “الآخر”؟ أليس الاستطلاع الثقافي، مرتبطا بالتطلعات الثقافية والسياسية لأوروبا راغبة في التوسع والهيمنة؟ لا يتجاوز، العمراوي نطاق التوصيف إلى نطاق الفهم والتعليل، ورسم مجرى تاريخي لسيولة الفكرة الحداثية. فبدون ذلك المجرى يضحي الحاضر الأوروبي، مجرد فضاء مشتت، حاضن لمستكشفات ومخترعات و”قتية “وعرضية وفجائية. والحال، إن للمستكشفات والمخترعات والتطلعات الموصوفة، منطقا لا يمكن إغفاله بحال، من منظور النظر اللاقط للثوابت والتحولات، للتواصل والانقطاع في “العمران” والتمدن، للتجاوز والإحياء . يواجه العمراوي التقانة المهيمنة، لا بمنهجية رابطة بين المنجزات، بل بمعينات، استطرافية، آيلة غالبا إلى أيلولة التقدم، حتميا، إلى الانحطاط. وهكذا، توازي حتمية الانحدار في الوعي الارتكاسي حتمية الظفر في الوعي التاريخاني. وحين يغيب النظر المنهجي، الرابط بين المنجز التقاني والسياسي والعسكري والفكري والاجتماعي والجمالي، تغرق الذات الواصفة في الوصف الجزئي غير المنتظم في سياق الموصوف بل في سياق الواصف، وتستلهم منطق السرديات المتعالية بافتتان. كان من المنتظر الوقوف على البناء العضوي للحضارة الأوروبية آنذاك، أي النظر اللاحم لقطاعات الفكر الأوروبي. إذ بدون تمثل هذا البناء العضوي، يصعب فهم الديناميات المتحكمة، لا في استراتيجيات العمل السياسي آنذاك فقط (الحروب والمعاهدات والتنازع حول الأطراف. . . الخ)، بل في استراتيجيات المعرفية الوضعانية وفي فرعها الاستشراقي بالذات. يستعين العمراوي، بمعايناته وبمطالعاته التاريخية، للوقوف على شبيه ونظير، للقطار. يحاول رد التقانة، بما هي تحويل علمي للطبيعة، إلى السجل التاريخي، إلى المتوالية السردية الهانئة، الموجودة طي الاسطوغرافيات المعيارية. إلا أن الذاكرة لا تسعفه، والمقايسة لا تطاوعه، والموازنة لا تنقاد إليه ؛لأن الموصوف، بلا عديل في الإطار الحضاري للمعاين، والقدرة التحكمية في الطبيعة، هي أعلى عند الأوروبيين من كل القدرات المحصلة على مدار تاريخ التمدن في ضفتي البحر الأبيض المتوسط. ثمة بداية، تحتاج إلى تعيين، وزمانية تستلزم نظرا أرحب، وانثربولوجيا، تعيد تعريف الإنسان. (وبالجملة فما سمعت أذني ولا رأت عيني ولا طالعت في كتب التواريخ بأعجب ولا أغرب من هذا البابور وكل ما حكيت عنه دون ما رأيت.) (محمد ابن إدريس العمراوي –تحفة الملك العزيز بمملكة باريز–ص. 48). ولما صعب إيجاد الأشباه والمقابلات في الثقافة الأصلية، فإن المعاين، سينتقل من السجل المعرفي إلى السجل الأدبي والجمالي. وتتحكم في إفاداته، في هذا السياق، نزعة تقريظية للكونت رشيد الدحداح صاحب جريدة “برجيس باريس وأنيس الجليس” من جهة، ونزعة تبخيسية للأداء التعبيري للمستعرب الأوروبي من جهة أخرى. ( ومع ذلك فليس على أدبه طلاوة، ولا في ألفاظه حلاوة، فعلى كل أقواله ينزل المقت، وإنما كنا نسمعها مساعدة للوقت، فكم أفسدت لكنته من عبارات رقيقة وكم هجمت عجمته من ألفاظ أنيقة، لو علم قائلها أنها تصل إليه لغض بيده فاه، ولاختار الصمت وما تكلم ولا فاه . . .) (محمد ابن إدريس العمراوي –تحفة الملك العزيز بمملكة باريز ––ص. 42-43). يصرف العمراوي الاهتمام هنا إلى جماليات الإنشاد الشعري، فيما يقتضي المقام استكناه معنى الاهتمام بثقافة الآخر في ثقافة ليست “مقررة بين أهلها” فقط بل هي متأهبة لبسط “أنموذجيتها” وفرض معاييرها على سواها في ذلك المنعطف الثقافي الحاد(النصف الثاني من القرن 19).
وبمعنى آخر، ما مقتضيات وشرائط بناء الاستعراب والمعرفة الاستشراقية في أوروبا متأهبة “لتغريب العالم”؟ ولماذا لم يجرؤ العمراوي وسواه من المبعوثين السفاريين والرحالة على وضع اللبنات الأولى للاستغراب، والانتقال بالتالي، من التوصيف والاندهاش الأولي إلى استكشاف مقتضيات “العمران” الحداثي الجديد وصياغة قانونه؟ لا يتساءل كذلك، عن حافزية البحث الثقافي، لدى مثقف أو مفكر أوروبي ذلك العصر. هل تنفصل الثقافة عن السلطة في التجارب الحضارية المتوسطية أصلا؟ هل تحتكم الثقافة دوما إلى المعايير المقررة، أم أنها تخرق المعايير وتصطنع معيارية جديدة مثلما فعلت الثقافة الأوروبية في عصر الأنوار؟ هل يمكن صياغة قانون للإحياء والتجاوز الثقافيين، في سياق صراع الابدلات والاستراتيجيات الثقافية؟ (. . . كلا بل هو من الأمور المذهلة (يقصد التلغراف)، والأشياء المشكلة والأدواء المعضلة، قد قربوا بها البعيد، وهونوا الخطب الشديد. وفيه أدل دليل على أن أمورهم بلغت الغاية: وتجاوزت النهاية، و أنه في الحال يعقبها الانحلال، وتأخذ في الانعكاس والاضمحلال، فمعلوم أنه ما بلغ شيء الغابة إلا ورجع ولا نال منتهى الصعود إلا اتضح فإنهم يقولون اليوم من أشد منا قوة ونسوا مهلك ثمود وعاد) (محمد ابن إدريس العمراوي –تحفة الملك العزيز بمملكة باريز–ص. 86). ففيما تتهيأ أوروبا للمعرفة والسلطة، فإن الشاهد يحول تطلعها الاستراتيجي إلى التغريب والتحديث، إلى عرض منذر بالانحطاط القادم. لا يروم النص ترويع القارئ، بل يتوخى إخباره بالمستجدات وإمتاعه، وتبشيره بالأفول القادم للتمدن الأوروبي. لا توافق انسيابية السرد لولبية السيرورة التاريخية، ولا البشارة المقدمة التهيؤ الأوروبي للتوسع الرأسمالي والتنميط الوضعاني للتواريخ الجهوية والإقليمية. ترى هل يملك كل الشهود، هنا والآن، حق الشهادة على عصر لا يدركون خوافيه، ولا يمتثلون لسيرورته اللولبية، المخادعة دوما؟ ألا يتحدد المفكر، أصلا بقدرته على تحديد الكائن والممكن، وتعيين شروط ومقتضيات الإمكان والاستحالة، وامتلاك القدرة على استجماع التفاصيل وإلحاقها بالناظم الكلي؟ ألا يتحدد المثقف بقراءة مسار الإبدالات، ومآل الاختيارات، وتعيين ما يمت إلى العقلانية وما يصدر عن المتخيل وعن القيعان اللاشعورية؟ أليس المثقف المعياري، مشروطا بالسرديات الكبرى لعصره، وبالمقتضيات التعيينية لشرطه الاجتماعي-والثقافي؟
ألا يجب تحرير الوعي من الرقص في دائرة السلوان والأشجان؟
اكادير – المغرب