بدل أن يُصاب لبنان بعدوى الثورات العربية الديموقراطية، أخذت هذه الثورات تُصاب بالعدوى اللبنانية. الثورة السورية تحديداً، بعد عامين على لاءاتها الثلاث المدوّية، ضد العسْكرة والطائفية والتدخّل الخارجي، ها هي تنزلق فيها، ناسخةً ملامح “النموذج” اللبناني الفذّ؛ وليتَ الأمر اقتصر على هذا؛ بل إن هزيمة اللاءات، وتسيُّد نقائضها، أعيد تصديرها الى لبنان، لتزيد جرعة تطييفه وتمذْهبه، وعسكرته، وطبعاً، التدخل الخارجي، الشرقي والغربي، بشؤونه. مع تفرعات جديدة، طبيعية، هي ابنة عصرها؛ نقصد الأسْلمة السنية، أو التسلّف السني، نظير الأصولية الشيعية، المصدَّرة، بدورها من إيران، موطن الولي الفقيه.
حاول اللبنانيون منذ عامين السير بخطوط متوازية مع الثورات العربية. ارتجلوا تظاهرات “إسقاط النظام الطائفي”. سرعان ما تلاشت هذه الوثبة، حتى بهتت كلياً. ربما أسبوع أو أكثر بقليل فصل بين نضوب هذه التظاهرات وبين اشتعال درعا، وقبيلها تظاهرة سوق الحريقة في قلب دمشق، المتفق على أنهما سجّلا تاريخ اندلاع الثورة السورية. فسادَ صمت الترقب والشغف؛ وأمل لدى نصف اللبنانيين، المعادين لبشار الأسد، بانهيار نظامه. ثم شلل وانتظار وشعار رسمي بـ”النأي عن النفس” سوف يتحول مع الوقت الى نكتة بائخة. ذلك أن سوريا ليست، بالنسبة للبنان، مصر أو تونس. إنها عنوان انقسام عميق بين اللبنانيين، إنها مفتاح تكوّن سلطة “دولتهم”، إنها الجارة اللدودة، والشعب المحيِّر، إنها صاحبة المسار المتلازم مع مسارنا. قواتها العسكرية انسحبت من لبنان، ولكن شبكة هائلة من العلاقات والمصالح والتواطؤات، كلها معقّدة ومركّبة، ربطت مصيرها بمصيرنا، وبنوع من التأثير الذي لا تجده بين دولتين، أو شعبين جارَين.
اللبنانيون منقسمون منذ بداية الثورة بين موالين للنظام ومتعاطفين مع الثورة. لكن هذا الانقسام ليس قائماًً على تطلعات ديموقراطية ضد تشبّثات استبدادية. فالذين نزلوا الى الشارع تضامناً مع هذه الثورة مدفوعين بتطلعات المواطنة ودولة القانون، كانوا قلائل ومشرذمين؛ غالبيتهم مثقفون وإعلاميون. أما الذين وقفوا بأعداد غفيرة وبتظاهرات وفعاليات منتظمة وبنبرة عالية لا حدّها حدّ، فهم المجموعات الإسلامية السنية. والمؤشرات الكثيرة تدلّ على طبيعة تفاعلهم مع الثورة السورية: تبدأ بالشعار “الشعب يريد القيام بالجهاد” المرفوعة في تظاهراتهم، ولا تنتهي بالأخبار المتفرقة عن تعاون وإمداد أو ما شابهما… وبديهي أن هذه المجموعات تؤجج النعرة المذهبية، المستنفرة أصلاً. مبرر ظهورها وصعودها هو الدفاع عن “كرامة أهل السنة”. هي ضد بشار ليس من أجل الديموقراطية… إنما من أجل رفع “أهل السنة” الى المرتبة القيادية التي كانوا عليها قبل أن يستولي “حزب الله”، المذهبي الشيعي، على قرار لبنان. من المضحك، هنا، أن “حزب الله”، وبمساعدة التهريجات الخطيرة لأحمد الأسير، أبرز وجوه هذه المجموعات، أتاحت له تقديم نفسه كقطب “كبير العقل”، “نابذ للفتنة”… بل ذهب أحد نوابه الى حدّ القول في مهرجان شعبي إنه مع “دولة المؤسسات والقانون”! هو الحزب الذي بنى دولة داخل الدويلة اللبنانية، دولة مسلحة، مذهبية، مرتبطة أشدّ ارتباط بالخارج، مستقوية به، ومنفذة لأجنداته، بصراحة ووضوح. وقد وجد لتدخله العسكري المنهجي مع قوات بشار الأسد سردية يذيعها: من أن ميليشياته في سوريا، في القصير مثلاً، “إنما تدافع عن أهالي بعض قراها، وهم لبنانيون، لصدّ هجمات الإرهابيين عليهم”. فتسلحهم وتشرف على عملياتهم وترسل لهم التعزيزات إلخ… الأمر المؤكد أن هؤلاء المواطنين المهدَّدين، ليسوا من أبناء الطائفة الاسماعيلية أو الأرثوذكسية أو السنّية…
إذاً، الديناميكيتان الأبرز في لبنان الآن، الأقدر على لعب أدوار مؤثرة على مستقبله، تتجسدان في قوتين غير متساويتين حيناً ومتعادلتين أحياناً: منابتها أصولية، يقودها “رجال دين”، تلحمها عصبية مذهبية، تدعمها جهات خارجية. الأولى، الشيعية، هي الأسبق، الأكثر انضباطاً وتنظيماً، الأكثر مركزية في القرار. الثانية، السنية، الناشئة، على الأقل في المشهد، العشوائية، المتعددة القيادة، التي تبدو كمن يلحق بالركب… الأولى كدّست السلاح بعدما جرّبته، فاعتبرت نفسها منتصرة، والثانية تظهر سلاحها في المهرجانات ولا أرقام دقيقة حول حجم ما تمتلكه منه. عصبية الأولى، الشيعية، أقوى من الثانية، السنّية. هذه الأخيرة موزّعة بين عدد من “الأمراء” وعدد آخر من القيادات السياسية؛ فيما الأولى أشدّ بأساً، ولحمة (منطق العصبيات الأقلوية والأكثروية).
لكن بالمحصلة، الاثنان مندمجان بالثورة السورية سياسياً وعسكرياً، خصوصاً عسكرياً. ولولا القرار الدولي، ومصدره الامبرياليات الغربية، بتجميد “الساحة” اللبنانية وبالنوم على حكومة “النأي بالنفس”…. لكانت الحدود اللبنانية السورية مفتوحة على مصراعيها للمقاتلين من الجهتين. “هي الآن مفتوحة” قد يقول البعض. هي كذلك، نعم، ولكن ليس كما لو صارت لها قوانين وآليات وروايات، لو تقنّنت، كما تقنّن عيشنا تحت تهديد السلاح “الحزب اللهي”، والقائم على مبدأ “توازن الرعب” غير المتكافئ. الآن الثورة السورية غيرت هذا التوازن، استقوت بها العصبية السنية لتصرفها بـ”أئمتها” السلفيين.
لم يَعُد لبنان “ينتظر” كما فعل بعد انطفاء تظاهرات “إسقاط النظام الطائفي”. باتَ جزءاً من الثورة، على طريقته. وإذا تقرر يوماً في الأروقة الدولية بإفلات حبل توتره المذهبي، المكتفي، حتى الآن، ببعض الحوادث الأمنية، فان إعادة تصديره اللاءات الثلاث، عسكرة وتطييفاً وتدخلاً، سوف يهدّد وجوده: فتح الحدود، أو بالأحرى تقنين وتنظيم خرقها ذهاباً وإياباً، سوف ينهي شيئاً اسمه الكيان اللبناني، كان إشكالياً قبل الثورة السورية… فما بالك، مع عسكرتها وتطييفها…؟
أفضل ما يمكن توقّعه من مآل للثورة السورية في لبنان هو اهتراء الدولة اللبنانية، نحو قاع أعمق، ترافقه جولات أمنية محدودة، نسبياً. أما الأسوأ، فانهيار لبنان واختلاط حدوده بالحدود السورية، وغلبة كل أنواع السلاح، القديم والجديد، المنظم والفوضوي، وتجذّر الأسس المذهبية للصراع، بل إضفاء الشرعية التامة على هذه الأسس… تلك “الفتنة” التي لا يكفّ أصحابها عن التحذير منها.
بكثير من الورع قال بعض “الحكماء” بأن تجنيب لبنان هذا المصير يمر بالتوقف عن المشاركة العسكرية بالقتال الدائر في سوريا؛ ومهما كانت طبيعة المشاركة، مع بشار أو مع الثورة. ويقترح هؤلاء “الحكماء” قصْر المواقف المتعارضة هذه على الجوانب الإغاثية والإعلامية. هل هذا ممكن؟ أم مجرد تعبير عن أمنيات؟
“الممكن” يعطي أملاً، يوسع الأفق. ربما من واجبنا التمسّك به. رغم القوة الجبارة التي تقف بوجهه. الممكن هذا، على تواضعه وقلّة عظمته، يتوسل نوعاً جديداً من المقاومة؛ مقاومة اليأس من المستقبل. مع الوعي المسبق بهزاله. فالسلاح وحده يتكلم في المعارك، ومعه العصبيات، العابرة للدول، الأقوى منها. ولبنان يمتلك كل شروط انفجاره. وإذا أفلت من المصير الكالح، عليه، مثله مثل أشقائه العرب، أن يعيد من الصفر بناء دولته. ولكنه لكي يفلت من هذا المصير، عليه أن يجمّد معضلته مع الثورة السورية، ويتوقف عن إعادة تصدير الثلاثي، عسكرة وتطييف و… الذي هو أساس “نموذجه”.
مثل سحابة صيف، كل هذه الأمنيات “الممكنة”؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل