كان عنوان «الشاه رحل!» يرمز إلى انتصار الثورة وكان ينذر بوقوع حدث تاريخي، وقد صدر هذا العنوان بالخط الفارسي العريض على رأس الصفحة الأولى وطُبع منه أكثر من مليون نسخة… وفي أوساط الصحافة الإيرانية، أثار ذلك العنوان سنوات من الجدل: من كتبه؟ من اختاره؟ كيف نشأ؟
يقل عدد عناوين الصحف الرئيسية التي تصبح أسطورية ومعروفة تاريخياً والتي تعكس قصة بحد ذاتها، فلا شك أن عنوان “الشاه رحل” هو واحد من تلك العناوين، وقد طُبع هذا العنوان في 16 يناير 1979 على الصفحة الرئيسة من صحيفتين بارزتين في إيران، هما “كيهان” و”إطلاعات”، بعد أن غادر الشاه محمد رضا بهلوي طهران نهائياً.
كان عنوان “الشاه رحل!” يرمز إلى انتصار الثورة وكان ينذر بوقوع حدث تاريخي، وقد صدر هذا العنوان بالخط الفارسي العريض على رأس الصفحة الأولى وطُبع منه أكثر من مليون نسخة.
في أوساط الصحافة الإيرانية، أثار ذلك العنوان سنوات من الجدل: من كتبه؟ من اختاره؟ كيف نشأ؟
يشهد هذا الشهر الذكرى الرابعة والثلاثين على صدور عنوان “الشاه رحل” في الصحافة. كنتُ في تلك الفترة نائب رئيس التحرير في صحيفة “كيهان”، وإليكم ما أذكره عما حدث في غرفة الأخبار في طهران خلال تلك الليلة.
طوال يوم 16 يناير، كانت مكاتب صحيفة “كيهان” مكتظة وأشبه بخلية نحل، إذ كنا قد اشترينا جهاز تلفاز ووضعناه في غرفة الأخبار لمشاهدة رحيل الشاه، وكان المراسل المكلّف بتغطية هذه القصة ملتصقاً بشاشة التلفاز وينتظر تطور الأحداث، وكان قد رفع كمّيه وبدا مستعداً لصياغة الخبر.
وجد مراسل آخر في مطار طهران لتغطية الحدث مباشرةً عبر هاتف عمومي، ولم تكن الهواتف الخليوية موجودة في تلك الأيام. كنتُ مسؤولاً عن التحدث إلى المراسل ونقل رسائله المتلاحقة إلى مكتب التحرير.
كان طاقم العمل في غرفة الأخبار مرتبكاً، فكان ينتقل من شاشة التلفاز إلى الهاتف ثم مكتب التحرير.
خلال اجتماعنا الصباحي في ذلك اليوم، ناقشنا طريقة اختيار العنوان الرئيسي إذا غادر الشاه إيران فعلاً: هل سنستعمل اسم الشاه بصيغة المفرد أم الجمع لصياغة خبر رحيله؟ في اللغة الفارسية، يُستعمل الفعل في صيغة الجمع مع اسم مفرد في إشارةٍ إلى أقصى درجات الاحترام تجاه الشخص المعني.
حتى تلك الفترة، كنا مجبرين دوماً على استعمال صيغة الجمع عندما نكتب عن الشاه، لكن بدأت الأمور تتغير بسرعة، فخلال الاجتماع، قال رئيس تحرير صحيفة “كيهان” رحمان هاتفي: “فور مغادرة الشاه، لا يمكن العودة إلى الوراء. سينتهي أمره”.
كان ذلك الكلام كفيلاً بإنهاء النقاش، وكنا قلقين من تداعيات تغطيتنا للحدث، فاتفقنا مع صحيفة “إطلاعات” على استعمال الخط عينه وطباعة الخبر في الوقت نفسه، وهكذا قررنا تحمّل العواقب جماعياً،
ومع ذلك، شعر مصمم الصفحة بالتوتر، فهو كان معتقلاً سياسياً في عهد الشاه وكان يحلم بهذا اليوم، وكان قد أعدّ تصميم عبارة “الشاه رحل” مسبقاً واحتفظ به في درج مكتبه، ثم راح يتجول في غرفة الأخبار ويدخن، وكان يتجه أحياناً نحو مكتبي ليضع يديه على كتفي. كانت عيناه تلمعان.
في تلك الفترة لم يعلم أيٌّ منا ما نعرفه اليوم، أي أنّ نشر العنوان الرئيسي “الشاه رحل” سيكون كفيلاً بإنهاء مسيرتنا المهنية، ولم يعلم أحد منا أن معظمنا سيدخل السجن ويتعرض للتعذيب والاستجواب. ما كنا لنعلم أن فرداً واحداً فقط من أصل 110 أشخاص كانوا موجودين في ذلك النهار سيتابع العمل في صحيفة “كيهان” حتى اليوم.
بحلول فترة الظهر، سمعتُ المراسل وهو يصرخ على الهاتف: “هوشنغ! هوشنغ! الشاه رحل!”.
لم أصدق ما سمعتُه، فسألتُه: “هل رأيته بأم عينيك؟”.
أجاب: “نعم رأيتُه بأم عيني. الشاه رحل. لقد رحل!”.
فأقفلتُ السماعة وصرخت: “الشاه رحل!”.
عمّت الفرحة في أنحاء غرفة الأخبار، وحين صدرت صحيفتا “كيهان” و”إطلاعات” مع الصفحة الرئيسة نفسها بعنوان “الشاه رحل” في أعلى الصفحة، حصل احتفال عارم في أنحاء الوطن، وحمل الناس الصحف عالياً وراحوا يرقصون في الشوارع.
سرعان ما بدأ مديرا التحرير اللذان أشرفا على تغطية الخبر في ذلك اليوم بالتنسيق في ما بينهما لإعداد عنوان رئيسي تاريخي آخر (“الإمام حضر!”) في إشارةٍ إلى عودة آية الله روح الله الخميني، الأب المؤسس للثورة، من باريس.
لكنّ الثورة الإسلامية التي تعهدت باستئصال الحكم الدكتاتوري الوحشي وإطلاق حقبة من العدالة والحرية لم تنفذ وعودها. بدأ هجوم منهجي على صحيفة “كيهان” بعد رحيل الشاه مباشرةً، فاندلعت تظاهرات خارج مكتبنا وبدأت التهديدات ضدنا، وخلال ثلاثة أشهر، طُرد طاقم عمل قسم الأخبار في صحيفة “كيهان”، وهم كانوا من أفضل الأشخاص في مجالهم في إيران.
توفي رئيس التحرير رحمان أثناء تعذيبه في السجن، ومُنع محرر آخر، هو غلام حسين صالحيار، من مزاولة عمل الصحافة وتوفي وحده في منزله حيث بقي معزولاً عن محيطه.
ماذا عن بقية طاقم العمل؟ خسر معظم الأشخاص الذين غطوا الحدث وكتبوا عبارة “الشاه رحل” و”الإمام حضر” عملهم وذهبوا إلى المنفى. حين عُيّن محقق سيئ السمعة في منصب رئيس تحرير صحيفة “كيهان” بعد بضع سنوات من الثورة، أصبحنا نحن الصحافيين نبيع المثلجات أو نعمل في المتاجر، وغادر عدد كبير منا البلد.
حبذا لو علمنا حين طبعنا عبارة “الشاه رحل” أن قوة شريرة كانت تتربص بنا وراء باب غرفة الأخبار وكانت مستعدة لسحق الوعد بالتغيير، ومنذ 34 عاماً، لم يستطع رحمان أو غلام أو أي شخص آخر من العاملين في غرفة الأخبار توقع ما يحصل في إيران اليوم. لقد توقعنا أن نكسب الحرية ولكننا حصلنا على حكم دكتاتوري ديني،
وما زلتُ أستطيع رؤية يديّ رحمان وهما تحضّران ذلك العنوان التاريخي، وما زلت أستطيع سماع صوت غلام وهو يصدر الأوامر في غرفة الأخبار، وأنا أنتظر اليوم الذي سيتعاون فيه محررو الصحف الإيرانية لإصدار عنوان رئيسي جريء آخر: “الدكتاتورية رحلت والحرية حضرت أخيراً!”.
هوشنغ أسدي: صحافي إيراني يقيم في فرنسا، فاز بجائزة حقوق الإنسان لعام 2011 عن كتاب “رسائل إلى معذّبي: حب وثورة واعتقال في إيران” (Letters to My Torturer: Love, Revolution, and Imprisonment in Iran)، وأمضى فترة في سجون إيران قبل ثورة عام 1979 وبعدها.
الترجمة منقولة عن “الجريدة” الكويتية