طالما تفكّرنا في ما يجري من حولنا،
وطالما حاولنا أن نبحث عن سبيل للخروج من حال الظّلم التي نراها رأي العين في كلّ بقعة من بقاع العرب وأصقاعهم المترامية الأطراف. ولمّا كنّا جميعًا نرى كلّ هذا الموت العربيّ من حولنا، فما بالنا لا نتفكّر في مسألة الظّلم؟
لقد سبقنا السّلف الصالح إلى النّظر في هذه المسائل الجوهريّة بتؤدة ورويّة. ولمّا كنّا نكنّ الاحترام لهؤلاء الأسلاف، أليس حريًّا بنا، إذا شئنا أن نكون خير خلف لخير سلف، أن نعود إلى هؤلاء لكي نقف معهم على حدّ هذا البلاء؟
ولهذا أيضًا وذاك، أبدأ فأقول:
رحم الله أبا حيّان التوحيدي الّذي نظر وفكّر، وبسطَ وعبّر، واختصر فأبهر. فلقد ولج أبو حيّان باب هذه المسألة عبر بيت من شعر أبي الطيّب: ”والظلمُ في خُلق النّفوس فإنْ تجدْ – ذا عفةٍ فلعلّة لا يظلمُ“. فها هو أبو حيّان يقف أمام هذا البيت متسائلاً: ما معنى قول الشاعر؟ وما حدّ الظّلم أوّلاً؟ ثمّ يُضيف: ”وسمعت فلانًا في وزارته يقول: أنا أتلذّذ بالظّلم. فما هو هذا؟ ومن أين منشؤه؟ أعني الظلم. أهو من فعل الإنسان أم هو من آثار الطبيعة؟“. ثمّ يُجيب التوحيدي على ذلك بكلام أبي علي مسكويه الذي قال: ”الظلمُ انحرافُ العدل.“ (عن: التوحيدي، كتاب الهوامل والشوامل)
غير أنّ جواب مسكويه يفتح لنا الباب على مصراعيه. أي، بمعنى احتياج الظّلم إلى ضدّه لمعرفة حدّه. وهذا أيضًا يقود إلى التفكّر أوّلاً في معنى العدل. إذ أنّ الظّلم، كما يقول: ”أخصُّ بمقابلة العدل الذي يكون في المعاملات. فالعدل من الاعتدال وهو التقسيط بالسويّة. وهذه السوية من المساواة بين الأشياء الكثيرة. والمساواة هي التي توجد الكثرة وتُعطيها الوجود وتحفظ عليها النظام. وبالعدل والمساواة تشيع المحبةُ بين الناس وتأتلف نيّاتهم، وتعمر مدنُهم، وتتمّ معاملتهم وتقوم سننُهم.“
ثمّ يمضي أبو حيّان، رحمه الله،
في تمثيل العدل بمركز الهدف، أي الغرض، الذي يُطلق إليه السّهم: ”وكما إنّ إصابة السهم من الغرض إنما هو نقطة منه، فأمّا الخطأ والعُدول عنها فكثير بلا نهاية. فكذلك العدلُ: لمّا كان كالنقطة بين الأمور تقسمها بالسوية، كانت جهاتُ العدول عنها كثيرة بلا نهاية. وعلى حسب القرب والبعد يكون ظهور القبح وشناعة الظلم.“
أي إنّ العدل، في نهاية المطاف، هو تلك النّقطة التي هي مركز الدائرة. وبكلمات أخرى، هو نقطة البيكار التي يُقاس بها العدل والظّلم على حسب القرب والبعد منها. وكلّما ابتعد الإنسان عن ذلك العدل الذي هو المركز، بانَ قُبحُه وظهرَ ظُلمُه.
ثمّ ينظر أبو حيّان في القول الشعري، مضيفًا: أمّا عزو الشّاعرُ الظّلمَ إلى سجيّة وخلق في النّفوس، فهو: ”معنى شعريّ لا يحتمل من النّقد إلاّ قدر ما يليق بصناعة الشّعر. ولو حملنا معاني الشعر على تصحيح الفلسفة وتنقيح المنطق لقلّ سيمُه وانتُهك حريمُه، وكُنّا مع ذلك ظالمين له بأكثر ممّا ظلم الشاعرُ النفوسَ التي زعم أن الظّلم في خُلقها.“
ثم يؤكّد التوحيدي على أنّ الظّلم الذي يتحدّث عنه هو من جملة الأفعال الصادرة عن البشر، وبكلماته: ”يجري مجرى غيره من سائر الأفعال“. والأفعال تصدر عادة عن ”هيئات وملكات“. أمّا الأخلاق فهي ”هيئات للنّفوس تصدر عنها أفعالها بلا رويّة ولافكر.“. وعلى هذا الأساس يجب النّظر في شأن الحكّام الذين يتلذّذون بالظّلم. فأنّ أفعالهم هي من جملة الاختيارات المذمومة التي أضحت هيئات وملكات لأنفسهم. وهكذا أضحت أفعالهم ”شرورًا وسمي أصحابها: أشرارًا…“.
الظّلم، إذن، هو من سلالة الأفعال البشرية. فإن صدر هذا الظّلم عن الظّالم دون تفكُّر فيه ودون تؤدة ورويّة يُضحي الفاعلُ ظلومًا بالخلق. أمّا إن صدرت هذه الأفعال عن فكر ورويّة فلا يمكن أن يكون الظّلم خلقًا، بل هو نابع من أمر آخر. فلقد أخبرنا السّلف عن بعض الظالمين في التاريخ العربي، وحاولوا عزو سبب ذلك الظّلم، الّذي أضحى سمة لصيقة بهم، إلى عاهة طفوليّة أوجبت علاجًا فريدًا من نوعه.
الظّالم الّذي وُلد بلا ثقب في مؤخّرته:
ها هو المسعودي يروي لنا في مروجه خبر الحجّاج بن يوسف الثقفي، فيقول إنّ والدته كانت عند الحارث بن كلدة. وبعد أن طلّقها الحارث لسبب، تزوّجها يوسف الثقفي أبو الحجّاج، حيث ولدت له الحجّاج ابنه. ثمّ نقف في رواية المسعودي على تلك العاهة التي ولد بها الحجّاج الطفل، إذ يذكر المسعودي أنّ الحجّاج الطفل كان قد وُلد ”مُشوّهًا لا دُبر له، فثُقب عن دُبره، وأبَى أن يقبل ثديَ أمّه أو غيرها، فأعياهم أمرُه.“
ثمّ يمضي المسعودي في سرد الخبر: ”فيقال: إن الشيطان تصوّر لهم في صورة الحارث بن كلدة، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ابنٌ وُلد ليوسف من الفارعة، وكان اسمها، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه أو غيرها، فقال: اذبحوا جديًا أسود وأولغوه دمَه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، فإذا كان في اليوم الثالث فاذبحوا له تيسًا أسود وأولغوه دمه، ثم اذبحوا له أسودَ سالخًا فأولغوه دمه واطْلُوا به وجهَه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع. قال: ففعلوا به ذلك، فكان بعدُ لا يصبرُ عن سفك الدماء، لما كان منه في بدء أمره هذا. وكان الحجاجُ يخبر عن نفسه أنّ أكثرَ لذّاته سفكُ الدماء، وارتكابُ أمور لا يقدم عليها غيره، ولا سبق إليها سواه.“ (عن: المسعودي – مروج الذهب، ج 1، ص 403؛ انظر أيضًا: اليافعي: مرآة الجنان، ج 1، ص 88)
إنّ هذه الرواية التي يوردها المسعودي، ودون أن ندخل في مدى دقّتها أو صحّتها التاريخية، تحاول تفسير الظّلم الصّادر عن الحجّاج بأثر رجعي عازية ذلك الظّلم الكبير الذي كان سمة للحجّاج إلى أمور شتّى تندرج جميعها في خانة العاهات، بدءًا بالعاهة الّتي كانت في الولادة والمتمثّلة بولادته بلا ثقب في مؤخّرته، مرورًا بعاهة دينيّة غيبيّة المتمثّلة بظهور الشيطان وانتهاءً بالعاهة الاجتماعية السلوكية المتمثّلة بذبح الجداء وطلي الدم على وجهه، إلخ.
وها نحن الآن
ننظر في ما هو جارٍ حولنا من بلدان. ننظر في شؤون من تملّك وترأس وتأمّر بما أوتي من سلطان. هل صدر ظُلم هؤلاء العربان عن فكر ورويّة أم صدر عن هيئة في النّفوس وسجيّة فكانت خلقًا لهم؟ فإذا كانت أفعال هؤلاء صادرة عن فكر ورويّة فقد صحّ أن يُقال عن هؤلاء أنّهم في الخلق من الأشرار. أمّا إن كانت أفعالهم صادرة عن هيئة في النّفس، فحريّ بنا أن نبحث ونكشف عن تلك الثّقوب في حلقات شروجهم، كتلك الّتي أوجبت ذبح الجداء السود للحجاج بن يوسف ومن هم على شاكلته من زمرة الأشرار.
والعقل ولي التوفيق!
*
موقع الكاتب: ”من جهة أخرى“
http://salmaghari.blogspot.com/ncr
إيلاف