ما حدث في صيدا، ليس رمانة بل قلوب ملآنة. ففي البلاد من يتعامل مع أبنائها بمنطق الغزو والمصادرة. ولا يحتاج الأمر إلى تفوق عددي. يكفي أن يشك ساكن وحيد من “أشرف الناس”، علم الحزب أو حليفه، على شرفة أو شباك، كي يُعلَن “احتلال” “الموقع المتقدم” خارج الضاحية، ويُرهَب من يجرؤ على الاعتراض. فقوى “المؤازرة” جاهزة لفرض السيطرة، مستفيدة من تدريبات على مقاومة لا تميز بين احتلال صهيوني أو فرض احتلال الحيز السياسي – الاجتماعي العام.
هي ثقافة الرمز والصورة والعنوان، وهي ثقافة الإيحاء بالقوة والسطوة، تحت مظلة التقرب من أهل البيت، وشعار كربلاء، والتصدي لـ”مؤامرات الخونة والعملاء”.
تمادى الحزب في ذلك منذ تولى الوصاية بالوكالة، واعتمد ازدواجية الممارسة: إدعى رفض الفتنة، واستخدم اللغة التي تغذيها، فأحيا غرائز خصومه الدينية، وكتّل جمهوره بعدما وحّده بخطاب ينضح بالمذهبية عبر تورية لغوية ذكية.
توج كل ذلك بفائض قوة دفع في اتجاه سيطرة “ناعمة” للحزب على المجتمع الذي يريد إلحاقه بتصوره، وعلى الدولة التي يغلف عدم إيمانه بها، و”يحلل”، دينيا، قضمها وهضم مواردها.
لا يملك الفريق المواجه مشروعاً مضادا، سوى إرادة الصمود المدني. لكن ذلك لا يرضي فئة تعتقد أن التصدي باليد، لا باللسان ولا بالإيمان، هو ما ينفع، كحال جماعة الشيخ الأسير.
ربما ذلك ما شجع وليد جنبلاط، قبل اشتباك صيدا، على محاولة اختصار طريق آلام اللبنانيين مع الحزب باقتراح اعادة النظر في اتفاق الطائف، لوهمه أن ذلك ما يريده اهل السلاح ثمناً له.
يعرف جنبلاط أن الحزب تربى في الأحضان الإيرانية سياسياً ودينياً وعسكرياً واجتماعياً، وتعلم أن السجادة تصنع على يد اجيال تتوارث صنعها، وفي ذلك دلالة إلى أهمية الصبر والاناة في تنفيذ مخططه. والحزب لم يخرج عن هذا النمط منذ بدت ملامح دوره في التركيبة اللبنانية مطلع الثمانينات: قضم حركة “أمل”، بالقوة العسكرية أحياناً، وبديبلوماسية “مالية” بين قواعدها، أحياناً أخرى، وبطوق اجتماعي وفره المال الإيراني كل حين. قدم دوره فوق الطوائف بمساعدات عينية (مازوت) في بعلبك والهرمل، حتى اعتقد كثيرون انه “كاريتاس” أخرى، وتعفف عن الحكم طويلاً، قبل أن ينخرط في دور برلماني “للمراقبة والتشريع” وفي سطوة على السلطة التنفيذية، بما يخدم جمهوره، ثم صار حاضراً في كل حكومة بعد خروج نظام الأسد، وصار يمنّن اللبنانيين بان من حقه ان يحكم، وليس قبوله بشركاء في الحكم إلا مكرمة وتنازلاً.
عمليا، وضع الحزب لبنان ، أمس بين خيارين، أحدهما التسليم بسطوته على الحياة العامة، تحت ترهيب الفتنة، وما اشتباك صيدا سوى نموذج يفتح عليها، وإما تعديل الطائف. وفي الحالتين مبتدأ لا يُدرك خبره.
m2c2.rf@gmail.com
كاتب لبناني
النهار