As below so above
ما يكون على الأرض يكون فى السماء
تاسعاً : النظام الاخلاقى (ماعت)
من أجلّ وأدلّ ما فى الديانة المصرية القديمة نظام ” ماعت ” (أو معات ، بنطق آخر ، لأن نطق الحروف الهيروغليفية لم يزل غير معروف ، وبالتالى فإنه – إن حدث – قد يكون غير دقيق) .
وماعت هى ربة (أو سيدة) الحق والعدل والإستقامة والنظام ، للكون كله ولكل فرد بإعتباره كوناً مصغـّرا ، وهو ما عبّر عنه الشاعر (أبو العلاء المعرّى) فقال :
وتحسب أنك جـِرم صغير .. وفيك انطوى العالم الأكبر
وعن ماعت أنها قالت ” لم أولد لكنى وُجدت عندما وُجد العالم ” (الكون!؟) . لقد كانت المفهوم السامى للقانون المادى والأخلاقى، وللنظام ؛ الذى عرفه المصريون. ومقتضى ذلك أن يكون مؤدى غيابها أو سقوطها ، ظهور المفاهيم المضادة لها ، وهى الباطل والظلم والإنحراف والفوضى ، وما بهذه التـّرهات والإضطرابات يستديم العالم أو يستمر الفرد .
وقد كان يُرمز لماعت بطائر عظيم الجناحين ، وتـُرسم فى هيئة فتاة على رأسها ريشة . وبقوة ما تمثله كانت سيدة الربات ، وأعظمهم قوة وفاعلية . لقد كانت تجسيداً لمعانى الحق والعدل والإستقامة والنظام ، فى الدنـْيا وفى الآخرة . ولها معانى أخرى ، اشـْتـُقـّت منها هى : حقيقى ، أصيل ، معتدل ، لا يتغير ولا يتبدل ، وهلم جرا ( للمزيد فى هذه النقطة بالذات ، يراجع كتابنا ” أصول الشريعة ” المنشور عام 1979 ) .
وكنظام كونى ، فإن الجميع كان يلتزمها ، سواء كان الفرعون نفسه أم الوزير أم رجل فى الإدارة ، أم شخص من العوام . فالذى يعتقد أن حكم الفراعنة فى مصر القديمة ، كان حكماً مطلقاً ، أو شمولياً ، أو مستبداً ، مخطىء فى إعتقاده ، أو مُضلـَّل فيه . ذلك بأن الفرعون لم يكن مستبداً على الإطلاق ( والملك الذى يسمى خطأ بالفرعون صورّه الجاهلون على هذا الفهم الضال والمضل . فلفظ الفرعون أصله ” برعو ” ويعنى البيت العالى ، وكان يستعمل اشارة مجازية لبيت المُلك ، ثم صار يُطلق على أعماله وأقواله وكل ما يصدر عنه ، كما كان يقال فى السلطنة العثمانية ” الصدر الأعظم ” كناية عن الحكام أو يقال فى الوقت الحالى “البيت الأبيض” كناية عن الرئيس الأمريكى ، والمساعدون له ومعاونيه . لكن تعبير برعو صُحّف بواسطة بنو إسرائيل إلى فرعون ، وصار يطلق على حاكم مصر ، فاكتسب من تاريخهم معنى التجبرّ والسلطة الغاشمة ) .
وفى متون الأهرام (اعتبارا من هرم أوناس فى الأسرة الخامسة) يقول الملك عندما يمـْـثــُل فى المحاكمة الكبرى (فى الدار الآخرة) بعد موته ، وهو يقدم كشف حساب بأعماله:(لقد كنت أحكُم وفقا لماعت : أى بالحق والعدل والإستقامة والنظام ؛ ولم أخالفها قط) . أى إنه طوال حكمه كان يلتزم النظام الكونى ، ويعرف أنه سوف يُحاسب وفقاً لمعاييره ، فلم يكن يقترف الظلم ولم يكن يلج الإنحراف ، ولم يكن يسمح بالفوضى ، وكان كمن يمسك بميزان الحق ، فلا يحيد ولا يميل ولا يميد . وتدليلا على انتهاج الملك نظام ماعت فى الحكم بالحق والعدل والإستقامة والنظام فقد كان يحلو له أن يتلقب بلقب “محبوب ماعت أو حبيب ماعت” .
أما الحكام فليس أدل على التزامهم حكم ماعت من قصة “الفلاح الفصيح” وقد حدثت هذه القصة فى مدينة إهناسيا ( وهى مركز فى محافظة بنى سويف حالا ) فى أوائل الأسرة السادسة ، وفى بداية عهد الإقطاع ، فقد اعتدى عمال بيت الحاكم ( البيت العظيم ) على فلاح فصيح ، فتوجه بالشكوى إلى مدير البيت ، وكان مما قاله ( يا أيها الرجل العظيم الذى يتجنب الصغائر ويحطم الظلم ويثبت الحق .. أقم العدل .. واكشف عنى الضـّر ) ولمّا أُعجب المدير بفصاحة الفلاح ، استأذن الملك وأحضره اليه ، فكان مما قاله هذا الفلاح المظلوم : ( إحذر فإن الأبدية تقترب .. ونفـَس الأنف إقامة الحق والعدل والإستقامة ( أى ماعت ) .. ليس هناك شىء يعادل استقامتك .. لا تنطق كذبا لأنك عظيم ( وأنت بذلك مسئول ) ؛ لا تكن خفيفاً لأنك ذو وزن ، ولا تتكلمن بهتانا لأنك الموازين ، ولا تحيدن لأنك الإستقامة . افهم أنك والموازين سيان ، فإذا مالت فإنك تميل ( كذباً ) . لسانك هو المؤشر العمودى للميزان ، وقلبك هو المثقال وشفتاك هما ذراعاه .. إن العدل عندما يكون قائماً يكون حقيقة عدلا ، لأن العدالة ( يعنى ماعت ) أبدية ، فهى تنزل مع من يقيمها إلى القبر .. واسمه لا يُمحى من الأرض بل يُذكر عدله . وهكذا تكون استقامة كلمة الله ) وقد أنصف الملك هذا الفلاح ، وصارت قصته باقية إلى اليوم .
إنما يلاحظ فى نهاية أقوال الفلاح الفصيح أنه قرن الإستقامة بكلمة الله ، ذلك لأن ماعت كانت لصيقة بالكلمة ، فهى تـُعد قرينا له ( Consort ) . وفى بعض الرسوم يظهر أوزير ، وإلى يمينه تحوت سيد (رب) الكلمات المقدسة ورسول الأرباب إلى الناس ، وإلى يمينه ماعت سيدة ( ربة ) الحق والعدل والإستقامة والنظام ، ذلك بأنهما كانا مظهرين للكلمة ، أو صيغتين لها أو وظيفتين من وظائفها . ومن هنا كان يقال إن الإله ( أو كلمة الله وروح منه ) هو الحق .
وفى التدليل على ذلك كان المصرى القديم يقول :
” غذّيت قلبى بماعت ( الحق والعدل والإستقامة والنظام ) ” .
” لقد وضعـْته ، أى الإله الذى هو الحق والعدل والإستقامة والنظام ، فى قلبى .
” إن قلب الإنسان إلهه ، وقلبى كان راضياً على أعمالى ”
” اتـّبع لبّك (أى وعيك ، الذى هو الإله) ما دمت حيا ”
” لقد كان قلبى (الحق والعدل والإستقامة والنظام ) كشاهد ممتاز ، فلم أهمل كلامه ، وخشيت أن أتخطى إرشاده ، وبذلك كان الفلاح حليفى لدرجة عظيمة . وبسبب ما أُوحى إلىّ ( قلبى : الحق والعدل والإستقامة والنظام ) كان عملى ناجحاً ، وكنت بإرشاده نابهاً .. فقد قال القوم : ” إنه وحى من الإله يوجد فى كل إنسان ، ومن أرشده إلى الصراط المستقيم فى انجاز العمل لسعيد ” .
” إنّ روحى هى الإله .. هى الأبدية ”
وهكذا ، فإن ماعت كانت معنى رائعاً يحكم نظاماً خـُلقياً راقياً ، ظل راسخاً مدة طويلة ، وبمقتضى هذا المعنى كان الإله يسكن فى الإنسان ، وهذا الإله فى الإنسان هو قلبه . ويرى علماء المصريات وعلماء الأخلاق أن هذه العقيدة تتصل بما نسميه فى لغتنا المعاصرة بالضمير ، أى إن نظام ماعت كان فى الحقيقة هو عهد الضمير ، وهو حكم الضمير ( يراجع فى ذلك كتابنا “روح العدالة ” ) .
وقد سقط هذا الحكم وذلك العهد بعد الأسرة الخامسة ، للأسباب التى أنف بيانها ، فانهار الحكم فى مصر وبدأ عصر الإقطاع منذ الأسرة السادسة . وفى سقوط نظام ماعت ، يقول عالم المصريات الأمريكى برستيد فى كتابه ” فجر الضمير Down of conscience ” لقد كان سقوط نظام ماعت أكبر كارثة حلـّت بالبشرية .
وقد نفذ هذا النظام ، بالأقوال لا بالأفعال ، إلى اليهودية ، عندما تأثرت بفكر مصر ، من المستوطنة (Colony) التى أقامها الرهبان والبنـّاءون الأطهار الذين سبقوا ، وصاحبوا ، زوج الملك سليمان الأولى ، وهى ابنة ملك مصر ، فبنوا لهذا قصر ومعبداً على الطراز المصرى ، وصار المعبد بعد ذلك هيكل سليمان ، فأنتقلت الروحانيات إلى الماديات ، وتلاشت المعانى فى المبانى .
ففى سفر الأمثال الذى ينسب إلى سليمان الحكيم “لقبول تأديب المعرفة : العدل والحق والإستقامة” أمثال 1 : 2 ، لنصر سبيل الحق “تفهّم العدل والحق والإستقامة” أمثال 2 : 8 . وفى مزامير داوود التى تـُنسب إلى داوود (الملك عند اليهود ، والنبى لدى المسيحيين والمسلمين) : “يدين الشعوب بالإستقامة” 9 : 9 . “اهدنى فى سبيل مستقيم” 27 : 21 “يارب إله الحق” 31 : 5 .
وبهذا تكون المعانى الكلية لماعت (الحق والعدل والإستقامة والنظام ) قد تكسّرت مع الوقت إلى شظايا وبقى منها لفظ واحد ليدل عليها ، ذلك هو ” الحق ” . وقد استـْـعمل السيد المسيح لفظ الحق ليعنى به المفهوم الكلى لماعت فقال ” تعرفون الحق والحق يحرركم ” انجيل يوحنا 8 : 32 . أى إنه عندما تعرفون الحق بمعناه الكلى وواقعه المتحقق – فإنه يحرركم من الباطل والظلم والإنحراف والفوضى ، وفى هذا الإنجيل قالت سيدة للسيد المسيح ” نعرف يا معلم أنك تـُعلـّم بالإستقامة … ” . وفى أحد أناجيل المعرفة قال السيد المسيح : تسألون عن الحق وسبيل الحق فى نفوسكم ؛ يقصد بذلك أن الحق ليس مجرد تعريفات أو كلمات ولكنه واضح يعرفه الإنسان من الإله الكائن فى نفسه ، ثم من المباشرة والممارسة والمعاشرة .
وعندما وقف السيد المسيح أمام الحاكم الرومانى ببلاطس البنطى قال له : إنما جئت لأشهد للحق . فسأله هذا قائلاً : وما هو الحق ؟
هاتان ثقافتان متناقضان، إحداهما ترى الحق ممارسة ومباشرة ومعاشرة ، تصدر من القلب ، ويفعـّلها الإنسان طلقا دون أن يحدّه تعريف أو يأسره تأويل ، أما ثانيهما فهى تتحلل فى الكلمات وتتبدد فى المناقشات وتتغير فى التعريفات .
فى الإسلام أن أعرابياً ( هو سفيان ابن عبد الله الثقفى ) ذهب إلى النبى وقال له : قل لى قولاً فى الإسلام لأ أسأل بعدك أحداً عنه ، فقال له النبى : قل آمنت بالله ثم استقم . وفى القرآن كثير من الآيات التى تقرن الإيمان بالله بالإستقامة ، تتخير الدراسة منها الآية (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) سورة فصلت 41 : 30 .
وقد كان المصريون القدماء يطلقون على من يتبع نظام ماعت قولاً وتطبيقاً ، لفظ معاتى ،وجمعه هو معاتيو ، أى اتـّباع ماعت التى هى (الحق والعدل والإستقامة والنظام) .
وقد نفذ هذا المعنى إلى التوراة فصار مقابله لفظ الصدّيق . جاء فى المزامير (عينا الرب نحو الصدّيقين) مزامير 34 : 16 ، ( الشرير يتفكر ضد الصدّيق ) 37 : 13 ، (الصديقون يرثون الأرض) 37 : 31 ، (فم الصديق يلهج بالحكم ولسانه ينطق بالحق ) 37 : 30 . أما المدهش حقاً فهو نص يقول (الرب صدّيق) 129 : 2 . فمن هو الرب الصدّيق ؟ ذلك متروك لكل قارىء يفسره على نحو ما يريد .
وفى القرآن “فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ” سورة النساء 4 : 96 . والملاحظة المهمة أن القرآن لم يصف بلفظ الصدّيق إلا إدريس ومن جاء إلى مصر من العبرانيين والسيد المسيح وأمه ، فقال عن كل منهم إنه صدّيق . (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً) سورة مريم 19 : 56 ، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً) سورة مريم 19 : 41 ، (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) سورة المائدة 5 : 75 .
هذى نصوص متفرقة ، قولها أو تلاوتها أسهل من فعلها وتنفيذها ، لكن نظام ماعت كان عند قدماء المصريين نظاماً كليـّا ، متكاملا ، فى شمول وإحاطة ، وتناسق وتوافق ؛ فقد كانت ماعت ضميراً للكون ، وضميراً للفرد يرتبط بها وينضبط بوضعيتها ، وبذا كانت ماعت هى الرباط المقدس بين السماء والأرض ، بين الضمير الكونى والضمير الفردى . وكما أن الحياة على الأرض لا يمكن أن تكون بغيْر هواء ، فإنها لا يمكن أن توجد وتستمر دون ماعت (الحق والعدل والإستقامة والنظام) ، ذلك لأن بديلها – كما أنف البيان – هو الباطل والظلم والإنحراف والفوضى .
إن ماعت حكمة العالم ، وهى قرين Consort) الكلمة ، التى عندما تجسدت فى أوزير ، صُورت ورُسمت ، فى هيئة أوزير وهو يجلس على عرشه ، وإلى يمينه تحوت ( هرمس ) وهو أحد صوره أو مظاهره ، وعلى يساره ” ماعت ” إحدى صوره أو مظاهره . فكان تحوت ينقل أما ماعت فكانت تحقق . والإنسان العاقل العارف يجعل مهمته الأساسية أن يوقظ ضميره الكونى و ” ماعت ” المقدسة ، فيؤكد عدالته بالعدالة المقدسة ؛ لا بالكلام المرسل ولا بالحديث المبتسر ولا بالألفاظ المتراصة ولا بالإيمان المغلظة . والبلد ، والوطن ، الذى يحكمه نظام ماعت تحيا فيه فى توافق وتعاشق كل القوى المتعارضة والمتناقضة .
على أن أهم ما فى نظام ماعت أنه كان – لدى المصريين – يوجد فى الزمان ويوجد خارج الزمان ؛ وهو ما يؤكد معرفتهم الحقيقية بالفارق بين الدائم والمؤقت ، وتحديدهم الصحيح للواقع بين الأبدى والزمنى ، وفهمهم السليم للأخلاق بين المبدأ وتطبيقه ، وإدراكهم الفائق للحدود بين الوجود والخلود .
وقد سبق بيان كيف أن نظام ماعت ، وكثير من التعاليم المصرية السرية ، وصلت إلى أورشليم القدس مع الرهبان العلماء والبنائيين الأحرار ، الذين بنوا لإبنة الملك ( الفرعون ) وزوج سليمان قصراً ومعبداً ، هو الذى صار هيكل سليمان ؛ ثم كونوا مستوطنة مصرية بنيت فى أورشليم القدس ، وعُرفت باسم الماسون (أى البناءون) وظلت مستمرة فى شعائر الماسونية حتى اليوم ، حيث تجرى المراسم والشعائر لأى عضو جديد ينضم إليها ، وفيها التأكيد على ماعت بالاسم والمبنى ، وربما المعنى كذلك .
ومن يتابع المواقع الألكترونية للبحث ، يرى كمّ الجمعيات والمراكز التى تحمل إسم ماعت ، وكلها أو أغلبها يستعمل نجمة داوود شعار اليهودية ، وبهذا صار هؤلاء هم ورثة ماعت ، صميم الفكر المصرى ، حتى وإن يكن بالمبنى وليس بالمعْـنى .
(د) لا تعرف الديانة المصرية القديمة خطيئة أولى اقترفها آدم ، وتاب الله عليه منها ، أو أن آدم أورثها لنسله والأغلبية من ذريته (لأن بعضهم منسوب إلى الجبابرة) . والفرد الموصوم بالخطيئة يكون كل عمله وقوله فى الحياة الدنيا مقصود به رفع هذه الخطيئة ، بالإيمان الذى تحتكره الديانة المنظمة ( Organized Religion ) ، أو بجهده الذاتى ، أو بالمعرفة المقدسة . وآدم تصحيف من حضارات بلاد ما بين النهرين للفظ أتوم المصرى . وقد أخذه اليهود عن بابل خلال الأسرالبابلى ، حين نقلهم نبوخذ ناصر (أو بختنصر) من أورشليم إلى بابل حيث ظلوا بها مدة سبعين عاماً . وقد أخذوا عن بابل أيضاً – فيما أخذوا – مفهوم جنة عدن التى تقع جنوب العراق ، فى أرض عدن الحالية ، وآمنوا بأنه يخرج من هذه الجنة أربعة أنهار ، أحدها هو نهر الفرات الموجود فى العراق حالا (حالياً ) .
إن الديانة المصرية القويمة تتركز فى دالة واحدة ، أن الله خلق الإنسان ليخلـُق به ، وأن عليه أن يصل بالمعرفة المقدسة ( Divine Knowledge , Gnostic ) إلى خلاص ذاته من الجهل والرغبات والشهوات التى رانت عليه ، من مجتمعات ضالـّة ، قبل أن تخلص له إرادته ، وبهذا يمكنه أن يعرف حقيقته ، وما خـُلق لأجله ، ثم يحيا بالمعرفة والعدالة لكى يحقق ذاته . ويكون تحقيق الذات لهدف معين هو أن يتوحد بالله ، هو وغيره ، فيكون الكل فى واحد ( All in one ) .
وفكرة التوحد بالله هذه تبدو جليّة واضحة فى متون الأهرام وفى كتاب الموتى حيث يتوحد المرء – بعد وفاته وبراءته – بأوزير ، كلمة الله وروح الله ، فيصير إسمه : أوزير أوناس ، أو أوزير آنى ، أو أوزير كذا .. وهكذا دواليك .
ومع أن هذا هو هدف الفكر الصوفى التقليدى فإن تصوره لله على أنه مادة ليس كمثلها شىء، هو الذى حال بينه وبين فهم هذا التوحد على أصوله ، فظل يتخبط وما زال ، بين ما يسمى بالحلول يقصد حلول روح الله) فى المتصوف ، أو وحدة الوجود ، أو الإتحاد بين الخالق والمخلوق ؛ وهى كلها محل نقد كبير ، قد يكون أحياناً فى محله .
وعلى ما أنف ، فإن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى الله ، إلا من خلال قلبه ، ومن داخل ذاته ، بعد أن يصل بالمعرفة المقدسة إلى الصميم من ذاته ، والبحت من روحه .
وللوصول إلى هذه المعرفة يتعين إيقاظ الشعور الكامن داخل الإنسان وتنمية قوى الملاحظة فيه ، والتعرف على القيم ، والشعور بالمسئولية ، وهذا ما يمكن تلخيصه فى ضرورة تجربته الحية من خلال منهج الفحص والتمييز ، والفهم والتقدير . وبذلك الفهم تكون المعرفة وعاء من الزجاج النقى (الكريستال) الذى يمتلىء بالحكمة . وفى هذا النقاء ينعكس الكون بأسره ، ثم يتركز فى شعاع مفرد ، ثم يتساقط على سطوح الحيطان (أى الأشياء) .
إن المعرفة لا تجىء من تكديس المعلومات وإنما من الفهم العميق الواعى بأن كل شىء يتصل بشىء آخر ، فلابد لذلك من ملاحظة الخارج ثم الإنعطاف بالملاحظة إلى الداخل ، وسوف يدهش من يتبع هذا المنهاج حينما يرى العلاقات بين الأشياء ، وأنها جميعاً تتداخل فى بعضها البعض . فالعلم يقوم على السبب والنتيجة ، كحدين منفصلين ، أما فى المعرفة فإنهما يتدامجان ( وهذا ما يسمى أحياناً – من قبيل التبسيط – بالمعرفة المباشرة) .
فى المعرفة المقدسة ينحل كل شىء إلى أرقام ، وبهذا يمكن إستيعاب مفهوم مهم ، هو أن الكون أقيم بالحساب الرياضى Calculation) وليس بالبناء اليدوى (Construction) وبهذا الوعى الدقيق لا يكون ثم ظاهر وباطن ، وإنما واحد واحدية يراها كُلّ ، من حيث تؤهله ملكاته وإدراكاته وثقافاته . ثـَمّ من يرى الظاهر وحده وثم من يدرك الباطن وحده ؛ لكن المعرفة المقدسة تجامع بين الأثنين وترابط بينهما . ومن هنا ، يفهم العارف بالله أن كل حقيقة يجب أن تكون مسجلة ومدونة فى معادلات هندسية وعلى نظامية رقمية .
إن القصد الواعى للإنسان لابد أن يقوده إلى المعرفة ، ذلك لأن القوة تحدد مقصده فيصير مدفوعاً بها حتى تفضّ له كل الحقائق فيصير سيد الأشياء جميعاً ، وبهذا يكون واحدا فى الله ويكون الله واحدا بالجميع ، واحدية كلية وليست واحدية عددية، لأن الكل يضم الجميع ويزيد عليه ، أما الواحدية العددية فإنها رقم يستدعى ما بعده ، فالواحد يستدعى الرقم 2 ، ثم الرقم 3 ثم الرقم 4 ، وهكذا، لا يكون توحيد أبداً، بل تعديد على الدوام .
ويتصور بعض المسيحيين ، وخاصة الديانة المنظمة ، أن بولس (الرسول) كان ضد المعرفة المقدسة وأنه حاربها بشدة . لكن القارىء المتمعن لرسائل بولس (الرسول) يلحظ وجود جمل وتعبيرات تتكلم عن تلك المعرفة مثل: معرفة الحق الذى هو حسب التقوى، الله: هو الذى أشرق فى قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله ، الآن أعرف بعض المعرفة، قوم ليست لهم معرفة بالله كما لم يستحسنوا بأن يُبقوا الله فى معرفتهم . عرفوا حكم الله ، تفتخر بالله وتعرف مشيئته ، هذه أمور لا يعرفها أحد إلا الله .. الروح الذى من الله لنعرف الأشياء ، عرفوا حكم الله ، تفتخر بالله وتعرف مشيئته .
ashmawy2@hotmail.com
* القاهرة
[مصر صفحة السماء (7)
->http://www.metransparent.com/ecrire/?exec=articles&id_article=19989
]