بالكذب المديد تفوّق الأسدان، الأب ووريثه، على نصائح مكيافيلي لأميره. صنعا من الكذب الضفائر، أطالا حبْله، حمياه من الانكشاف، جعلاه عريقاً، متجاوزاً حدود جغرافيتهما، حولاه الى فضيلة. على يديهما صار الكذب «ذكاء»، «تدبّراً»، مرونة، ركن من أركان الحكم «الصالح».
لم يترك الأب، وبعده وريثه، باباً من الكذب إلا وطرقه: قال عن نفسه انه علماني، اشتراكي، وحدوي، من أجل فلسطين يحارب الصهيونية والامبريالية، يحبه شعبه حتى الثمالة.
أمدّ جواره الطيّع، اللبناني والفلسطيني، خصوصاً، بهذه الصناعة، فخلق الدمى المردّدة لبضاعته؛ والصرخة واحدة «انها اسرائيل!»…. عقود من الزمن والرهط يسجل «الإنتصارات» الواحد تلو الأخرى، فتسرّبت الأكاذيب الى مسام الناس، يصدقونها، يريدون تصديقها، ويكذبون بدورهم، من فرط حراستها… فصرنا «مجتمعات الكذّابين»، نصدق أنفسنا، كما يصدق الحكام أنفسهم… فنصبح عفويين، صادقين بكذبنا، منافقين بالفطرة. مع الحفاظ طبعا على المقامات: الجالس على العرش، أو العريش، يصدر الاكاذيب بوعي تام وإمساك أتمّ بحبالها الغليظة والدقيقة. فيما نحن، تحت، نستهلكها، نمضغها ونبتلعها، سذاجة أو تواطؤا.
مع أن هذه الاكاذيب لا تحتاج إلى الذكاء الطبيعي لكي تنكشف. أمام أعيننا… الجولان، والطائفية والثراء الفاحش غير المشروع، والتجربتان اللبنانية والفلسطينية، والإمبريالية والصهيونية، و»التأييد» الذي يبذل «الروح والدم» من اجله… لا حاجة إلى براهين علمية، لا حاجة الى المسافة لكي ينكشف الهراء الموصوف؛ لكن القائمين لا يطيقون الإنكشاف. من الأول يعملون بالقاعدة الذهبية المكيافيلية: «لا تعرض أكاذيبك للتدقيق أو الفحص»، أي، من أول الطريق، كمّم الأفواه، ومن يعاند منهم، أغلق عليه في السجن سنوات، عذّبه، ربِّيه، علّم الآخرين به. واذا جازفت بالإعلان عن كذبة غير مقنعة، فاخترع أكاذيب أخرى، أكثر فداحة، أكثر قابلية للتصديق… هكذا كانت تعيش سوريا، هكذا كنا في لبنان نتلقى تفاعلات المنظومة التكاذبية، نتحمس لها، نموت من أجلها، نخرّب ديارنا واتفاقاتنا وتفاهماتنا، فقط لأن العديد من بيننا ممعن في تصديق الكذبة، بل في «النضال» في سبيل تثبيتها الى يوم الساعة. غرقنا في الأكاذيب، ولم نعد نراها، ولا نشعر بأذاها على صحتنا النفسية، على صحتنا العقلية. وصرنا نحتاج، ونحن أمام الخطاب المعتمد لدى فروع اللبنانية من المنظومة الأسدية، إلى تفكيك طبقات الكذب المعمّرة، ومستوياته المتشابكة.
من بين ما فعلته الثورة السورية أنها نالت من منظومة الكذب. قامت بفعل أخلاقي من الدرجة الأولى. قطعت مع الصمت، مع الكذب، السلبي والايجابي، خاضت في الصدق، فصرخت: «لا! هذا النظام لا هو تنموي ولا وحدوي ولا علماني ولا تحرري… وفوق كل ذلك، نحن لا نحبه على الاطلاق«. قالت انه كذّب علينا طوال عقود، وها نحن الآن لم نعد نحتمل تصديق أكاذيبه. نحن لحظة صدق، نعد انفسنا بالصدق، وبعدم السكوت بعد الآن. فخرج السوريون يتظاهرون، يجهرون بحقيقة ما هم عليه، غير خائفين، بعد الآن، من رفع الحجاب عن الكذب الذي قام على أساسه نظامهم.
هل هي رياح الثورات العربية فحسب؟ بل هي شيء إضافي… شحٌّ أصاب بنك الأكاذيب، فوقع في فخ التكرار من دون عبقرية البهلوانيات السابقة، من دون شعوذاتها… كل هذه المهارات كان لها نصيب وافر في حقبة، تغيرت الآن؛ ثورة سلمية، في بدايتها، تهز الهيكل «النظري» الذي قام عليه، والذي من دونه لا يعرف ان يحكم، هيكل الكذب المترامي الأطراف. هكذا تفهم الرصاصات التي تصدّت للمتظاهرين المسالمين، انه دفاع النظام عن نفسه، عبر دفاعه عن اكاذيبه. ماذا في بنكه المفلس؟ «إرهاببين»، «مسلحين»، «سلفيين»، »فلسطين»، «الصهيونية»، «الامبريالية»… مواد فاسدة، اقتربت كثيرا من العفن، خصوصا عندما تقصف قوات النظام العمارات على من فيها، وتقول انها من أعمال الشيطان القاعدي…
فيما بنك الكشف لدى الثورة لا يتوقف عن الغرف من الحقيقة: لولاها، من سوى «النخب» سوف يكون على بيّنة من مجزرة حماه التي حجبها النظام بالكذب، بالصمت عنها، بالغاء الشهود عليها، لإخراسهم؟ من سيعرف رامي مخلوف، واسماء الاسد، وآل الأسد جميعا، لولا تجلي تخريفاتهم جميعا؟ لولا حمى العمليات الانتحارية الاعلامية التي خاضها الشباب السوري، لتغطية الردود التي يقابل بها النظام شجاعة مواطنيه؟
إنتبه العديدون، في بداية الثورة انها، هذه المرة، سوف لن تمر على سلام، لن تمر كمجزرة حماه، من دون حس ولا خبر. هي اليوم مغطاة إعلاميا، تضرب ركناً حيوياً من أركان النظام، المصهور بالإذعان للكذب… وبعد ذلك، وعلى الرغم من كل ذلك، يأتيك من هذا النظام نفسه ويدين أكاذيب معارضيه. صلافة بلا حدود! لكن هيهات… في جعبة الثورة المزيد من الحقائق تحررت من ثقل الأكاذيب.
هل من باب الصدف ان يكون حلفاء النظام السوري يشبهونه، من هذه الناحية بالذات، من دون ان يتوصلوا، حتى الآن على الأقل، الى حدّ القتل والتدمير المنظَّمين بحق شعوبهم. الروس والايرانيون، مع «أذرعتهم»، هم على شاكلته نفسها، من دون إمتحان قاس، كالذي يتعرض له النظام السوري «الشقيق». جميعهم يخضعون شعوبهم وجماهيرهم بالصمت عن الاكاذيب. أطرف الوقائع الايرانية، وبتنا نعرفها جميعا، تلك الترجمة المحرِّفة لخطابي مرسي وبان كي مون في مؤتمر عدم الانحياز في طهران… ولكن أعمق من ذلك، ان في النظامين وشركائهما لا صحافة تفضح ولا مداولة (حقيقية) تحاسب ولا حرية تعبير تُصان. مال الحقيقة السائب يشجّع الحكام على المزيد من الحرام، المزيد من التمرس على التزييف النشط؛ ولكن الخاوي أيضا، المكرر، المحفوظ. الحلفاء «الراشدون» هؤلاء لا يتوقفون عن نسخ أكاذيب النظام السوري، داعمين بذلك، أخا وصديقا نشأ على صورتهم ذاتها، فكانت القرابة تلقائية، وجودية، قبل أن تكون مصلحية.
الآن، طبعاً، سوف يكون هناك من ينبري، بالسؤال المضاد: هل هذا يعني بأن الانظمة الغربية المؤيدة، تأييداً محدوداً، للثورة السورية، لا تمارس الكذب؟ طبعا تمارسه، طالما ان السياسة بالتعريف تحتاج الى الكذب. ولكن…. الكثير من اللكن: ان هذه الأنظمة الذي تحتضن الكذب الضروري تضع حدودا له، يصعب تجاوزها. هو النظام الديموقراطي الذي يسمح بتغيير الحكم دوريا عبر انتخابات غير إيمائية. هو ليس النظام الطوباوي الحالم، انه فقط الأقل سوءاً من بين أنظمة اختبرتها البشرية. لذلك، فان الحقيقة عنده، فاضحة الكذب، ليست مطلقة، لأن الكذب فيها أيضا ليس مطلقا، بل نسبي، مثل الحقيقة. وهذا النسبي الذي لا يعجبنا، خارق بقوته: بفضله كشفت أكاذيب الاميركيين في العراق وأفغانستان وسجون غوانتانامو، والاكاذيب الداخلية من احتيالات ومخالفات وهدر وفساد الخ. هو ليس المجتمع الفاضل المشتهى، ولكنه جنة من الفضائل قياسا الى كذب الاستبداد ومخلفاته. انه نظام قريب من الطبائع البشرية، حيث يتعايش الكذب مع الصدق ويتعاركان.
تريدون آخر الأمثال على ذلك؟ جو بايدن، نائب أوباما في الرئاسيات المقبلة، يأخذ عليه المحلّلون «حماقاته»، ويرونها نقطة ضعف الرئيس المرشح. ويقصدون بها، أي «الحماقات»، عدم قدرة بايدن المكررّة على إخفاء رأيه، والتفوه بكلام يضرّ بتوجهات الادارة القائمة. ولكن هناك أيضا من يرى ان «الحماقة» بالنسبة لرجل سياسي هي قوله حقيقة لا يقولها زملاؤه، وعندما يرتكبها رجل مثل بايدن، فهذا دليل على «أصالته»، لا على غبائه أو قلّة «ذكائه»…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل
الكذب ملح الديكتاتور والثورة عليه ثالثهما
الكذب داء متاصل بحضارتنا العربيه الاسلاميه.الكذب كوسيلة لبلوغ غايات محدده مبرر إسلاميا وخاصة بالمذهب الشيعي.
على كل حال اريد القول ان المقال رائع من دلال.