فيما يتعدى المشاعر العاطفية وعبارات الترحيب، يعتزّ لبنان بهذا التكريم وهذه اللفتة لأن هذا البلد الصغير والفريد في تنوعه الديني والثقافي، استطاع الصمود في وجه العواصف على رغم ضراوة حروب متنقلة واستهدافات من الأقربين والأبعدين.
عندما تحلّون في ارض “بلاد اللبن والعسل والأرز والزيتون” تدركون أنّ لبنان يختصر الشرق، وأنّ المسلم فيه يرحب بكم مثل المسيحي. فلا معنى للبنان بلا مفهوم الشراكة فيه ولا قيمة للبنان من دون المعنى الحضاري والإنساني لدور التفاعل الديني والثقافي بين الشرق والغرب.
عندما تشرفون على البحر الأبيض المتوسط وتتأملون شموخ الجبال التي تحاذيه والمساحة المحدودة، تستنتجون أن الجغرافيا لوحدها لا تصنع وطناً، وأنّ لبنان مسكون بتاريخ يرفع من شأنه تارة ويؤجج فيه كل الأهواء والأطماع تارة.
إذا كان في هذا المشرق والعالم من ضحية بامتياز لبيئته الجيوسياسية فهو لبنان… ومن هنا لا بد من إسهامكم الكبير من أجل تحويل لبنان وطناً لجميع أبنائه وليس مجرد ساحة للأطماع والصراعات الخارجية أو شركة للمنتفعين في الداخل.
منذ 1968 حتى يومنا هذا، عانى لبنان الكثير ودفع كل أثمان الصراعات: الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الصراعات العربية ـ العربية، الحرب الباردة وما بعد الحرب الباردة، تداعيات حرب العراق والتجاذب الأميركي ـ الإيراني. أما آن لهذا البلد أن يهنأ ببناء دولة الاستقلال الفعلية وجعل الأولوية للمواطنة وللانتماء اللبناني فيه.
يعوّل لبنان عليكم في عدم تركه وحيداً فريسة مشروع هيمنة من هنا ومشروع حلم إمبراطوري من هناك. في أحضان لبنان تشهدون على تجربة تعايش ديني نادرة على رغم بعض النكسات والانحرافات.
ولا يمكن لأحد أن يتصور لبنان من دون دور المسيحيين الفاعل فيه. وهذا الدور البارز منذ ولادة لبنان الكبير عام 1920، تكامل مع دور مجموعات لبنانية أخرى أسّست للكيان اللبناني تحت رعاية الأمير فخر الدين الثاني المعني.
وبرزت دوماً المسؤولية الكبيرة للبطريركية المارونية من خلال دورها الإنقاذي في أزمة 1958 ودورها المركزي في الاستقلال الثاني بين عامي 2000 و2005.
ومنذ اندلاع حركات الاحتجاج من تونس إلى مصر وسوريا، زادت الخشية من انعكاسات أحداث ما سمي بالربيع العربي على لبنان وموقعه ودوره ومصيره. وربط البعض بشكل تلقائي بين ما حصل في العراق ويحصل في سوريا بالنسبة إلى مسيحيّي المشرق ومستقبلهم.
إن العودة إلى نغمة أحلاف الأقليات لا تشكل جواباً جاداً في زمن الفرز الطائفي وصعود حركات الإسلام السياسي كبدائل لأنظمة الاستبداد التي فشلت في بناء دول قانون وحق وفي تعزيز المواطنية على حساب الفئويات الدينية والعرقية.
إن الدور الطبيعي والتاريخي لمسيحيي الشرق هو في الثبات في أوطانهم ورفع راية التنوير والإسهام في التحولات الجارية ومواكبتها ليس من خلال اصطفافات تُكرّس الانقسامات بل بتبنّي نهج انفتاحي يراهن على الأجيال العربية الجديدة التي أطلقت حركات غير إيديولوجية من أجل الحرية والكرامة قبل أي شيء آخر.
من لبنان سيبدو ماثلاً أمامكم مشهد الشرق بكل جمالاته وإرثه الروحي والحضاري. وأيضاً بكل تعقيداته. والدواء الشافي لأمراض الشرق المزمنة يأتي من الصيغة اللبنانية التي عليها أن تتأقلم مع العصر ليصبح التفاعل بين المجموعات الدينية انصهاراً في مسيرة المواطنية المكرسة للتعددية والحريات وأولها حرية الدين والمعتقد.
في مواجهة الدعوات للإقصاء والتطرف وعدم الاعتراف بالآخر، في مواجهة التخويف والخوف من مواجهة الوقائع الجديدة، يعتمد لبنان على دور الفاتيكان في شد أزره في خضم التحولات المصيرية في المشرق.
سيغرق الشرق في الظلامية من دون أنوار لبنان وقوى التغيير المنفتحة في الإقليم. هذا هو الرهان على دوركم في عدم السماح بمس الفكرة والرسالة اللبنانية.
الصورة اليوم ليست زاهية أو وردية، والمسار شائك لكن الدفاع عن لبنان يستحق العناء والجهد من أجل مستقبل مشرق للشرق. إن أفضل حماية للوجود المسيحي في لبنان والمنطقة تكمن في التركيز على النواحي الإيجابية للنموذج اللبناني ورفض العزلة ومنطق صدام الحضارات والأديان.
khattarwahid@yahoo.fr
* مدير معهد الجغرافيا السياسية في باريس