“برنار هنري ليفي” (في عدد 14 آب/أغسطس 2012 من صحيفة لوموند الباريسية
إن المأساة السورية (الجنون المطْلق العنان الذي استحوذ على بشّار الأسد، وآلام المدنيين الذين يقصفهم أزلامه) تثير أسئلة شتّى يجب أن لا تمنع الهدنة الصيفية من طرحها ـ فالدكتاتورية لا تأخذ
عطلة!
1ـ هل يجب التدخل؟ وهل تسري على الوضع في سوريا “مسؤولية الحماية”، التي تمثِّل صيغة الأمم المتحدة للنظرية القديمة للحرب العادلة؟ الجواب نعم. الجواب نعم لامشروطة. أو بعبارة أدق، لا تمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا بالإيجاب فيما يخص أولئك الذين رأوا، في عام 2011، أنها تسري على الحالة الليبية. فالقضية عادلة. والنية سليمة. والسوريون أنفسهم هم من يطلبون المساعدة ـ وذلكم عنصر أساسي. وقد استُنفِدت جميع إمكانيات اللجوء إلى حلول سياسية أو دبلُماسية وجميع مساعي الوساطة. والآثار المترتبة على عملية إنقاذ للمدنيين ستكون على أية حال أقل من الأضرار التي تسببها
المدافع الطويلة المدى التي تبيد المدن المتمردة.
إن حلب اليوم هي بنغازي الأمس. فالجرائم التي تُقترَف فيها هي الجرائم التي هدّد القذافي بها عاصمة منطقة برقة قبل التدخل. ولن يفهم أحد أن لا نقوم هنا بما كنا فعلناه هناك للحيلولة دون اقتراف جريمة معلَنة، أن لا نقوم به هنا لوقف الجريمة بعد بدئها لا للحيلولة دون وقوعها. فوقفها مسألة تماسك في الموقف. أي مسألة منطق. أي مسألة سياسة ومسألة أخلاق، كما يقول معلِّمي جورج كَنغِليم، هذا التاريخي المعني بالعلوم الذي كان أيضاً أحد الوجوه المتميِّزة لفرنسا الحرة وكان يحب أن يعرِّف نفسه بصفته
“مقاوماً بفعل المنطق”. وذلكم ما تفرضه الحالة الليبية.
2ـ كيف التدخل؟ وكيف يُعالَج الفيتو الروسي والصيني على وجه الخصوص؟ ليس الجواب على درجة التعقيد التي يزعمها أولئك الذين عقدوا العزم مقدَّماً على أن لا يقوموا بشيء. فالجواب هو ذلك الذي أعطاه في 11 آذار/مارس 2011 الرئيس السابق نيكولا سَركوزي لممثلي المجلس الانتقالي الوطني الليبي الذين سألوه عما سيحدث إن لم تستطع فرنسا استصدار قرار من مجلس الأمن: “هذا المآل سيكون مصيبة؛ ويجب أن نقوم بكل شيء لتفاديه؛ لكن إذا لم نفلح في مسعانا فينبغي أن نقيم، مع المنظمات الإقليمية المعنية (الجامعة العربية، والاتحاد الأفريقي)، هيئة إشراف بديلة تتيح العمل على الرغم من ذلك”.
والجواب هو أيضاً ذلك الذي أشارت إليه، في 30 أيار/مايو، بشأن سوريا نفسها هذه المرة، سفيرة الولايات المتحدة لدى مجلس الأمن، سوزان رايس، إذ تكلَّمت أمام جمهور جان-ماري غيهينو، مساعد كوفي عنان، الذي كان آنئذ يشرع في تسجيل إخفاق وساطته، فباحت قائلة: “إن المجتمع الدولي يخاطر قريباً بأن لا يكون أمامه من خيار آخر إلا التفكير في عمل خارج إطار خطة عنان وسلطة المجلس”. خارج إطار سلطة المجلس! هذا كلام السفيرة الأمريكية ذاتها!
“ليس الفيتو الروسي والصيني إلا ذريعة”
هناك من ناحية أخرى مسألة القانون. يجب تعديل القانون عندما تكون أشكاله الوضعية مخالفة لمتطلَّب الحق الطبيعي والعدالة. فإعمال الروس والصينيين حق النقض ليس بحجة، بل هو ذريعة. إنه ذريعة أولئك الذين يعوِّلون، في السر، على أن يقوى بشّار الأسد على سحق التمرد فيحرِّرنا من تأنيب الضمير الذي يُلِمُّ بنا. فله سفك الدماء. ولنا ذرف دموع التماسيح.
3ـ أي نوع من أنواع التدخل؟ وما هي “أهداف” مهمة حماية المدنيين السوريين؟ ـ بمعنَيَي الكلمة بحسب كلاوسيفتش، أي أهدافها الحربية (Ziel) وأهدافها السياسة (Zweck) ـ فلمّا لم يكن ثمة من حدّ لسوء النية في هذا النقاش فإن كثيرين يتظاهرون بأنهم يعتقدون بأن الأمر يتعلَّق، كما عليه الحال في أفغانستان، بإرسال أفواج من المشاة لكي تلاقي حتفها. والواقع ليس ذلك. إنه أولاً واقعُ فرضِ منطقةِ حظرٍ للطيران انطلاقاً من قاعدتي حلف شمال الأطلسي في إزمير وإنسرليك في تركيا، لمنع طائرات بشّار الأسد من قصف نساء حلب وأطفالها.
ثم إنه واقعُ إقامةِ منطقةِ حظرٍ لقيادة الآليات، انطلاقاً من الجو أيضاً، منعاً لانتقال فرقه المدرَّعة من مدينة إلى أخرى لتزرع الرعب بدورها. وذلك هو المقترح القطري المتمثل في إقامة “مناطق حظر للقتل” يحمي حدودَها عناصر من الجيش السوري الحر مزوَّدون بأسلحة دفاعية. وتلك أيضاً هي الفكرة التركية المتمثِّلة في إقامة “مناطق عازلة” في شمال البلاد، على نحو يهيئ ملجأ للمدنيين الذين يفرّون لتفادي المعارك. وهذه طائفة متدرِّجة من التدابير التي تُفهِم الدكتاتور أن العالم لم يعد يطيق هذه المجزرة. وهذا منحى متصوَّر مقارب بقدر كاف، من حيث الجوهر، للمنحى الذي تصوَّره التحالف على القذافي خلال الأسابيع الأولى والذي لم يخرج عن حدود أهدافه الأصلية إلا بسبب التشدّد الانتحاري من جانب “القائد”.
أمّا أن يكون بشّار الأسد على قدر من الجنون يضاهي جنون القذافي، وأن يكون مستعداً، على غراره، إلى أن يبلغ حدّ “يحيا الموت”، فذلك ممكن، بالطبع ـ لكنه ليس الافتراض الأكثر احتمالاً، وعليه فإن من شأن هذه الخطة التي تأتي في مراحل عديدة، بمثابة عمل متدرِّج، مَقِيس، يُتفادَى به بلوغ الحدود القصوى مباشرة، أن تجعل النظام يرضخ. فالأسد نمر من ورق. إنه يستمد قوته من ضعفنا. فليُبدِ أصدقاء الشعب السوري عزمهم، وليأتوا بآيات بيِّنات على قدرتهم على الضرب، لنراه يُفضِّل المنفى على الانتحار.
4ـ من يقف مع هذا التدخل؟ وبصورة ملموسة، ما هي القوة التي ستقوم به؟ ذلكم ما تختلف فيه الحالتان السورية والليبية ـ لكن، من هذه الناحية أيضاً، ليس بالمعنى الذي يُذهَب إليه. فالقذافي، خلافاً لما يُكتب في هذا الشأن، كانت له دعائم راسخة في المنطقة. وحتى الجامعة العربية، التي كانت بالتأكيد أول طرف يذكر “منطقة حظر الطيران”، إنما فعلت ذلك على استحياء ولم تلبث أن أعطت الانطباع بأنها تتوجس خيفة من جرأتها.
“الأسد مكروه في أفريقيا”
الأسد منبوذ في العالم العربي. فقد عُلِّقت عضويته في الهيئات والمنظمات العربية في مرحلة مبكرة جداً، ما لم تكن عليه حال القذافي. إنه مكروه في أفريقيا. وتتخوفه إسرائيل. وله على الأخص عدو معلَن في أنقرة، مجهَّز بجيش قوي، مدمَج في حلف شمال حلف الأطلسي، ولديه على الأقل سببان للرغبة في التخلّص منه: تنافسه الموروث مع إيران، التي تدعم الأسد؛ وخشيته من أن يرى هذه الحرب، إذ تطول، تذكي الرغبات الانفصالية لدى أقليته الكردية التي ستحذو حذو كرد سوريا الذين يكتسبون على الجهة الأخرى من الحدود، متنكِّبي السلاح، استقلالاً ذاتياً قائماً على الأمر الواقع…
الأسد أكثر عزلة مما كان عليه القذافي. وبالقياس إلى التحالف على القذافي الذي شكَّلته بريطانيا وفرنسا، بمفردهما تقريباً، بدعم إمدادي من الولايات المتحدة، فإن التحالف الآتي لنجدة ضحايا الأسد سيكون، في آن معاً، أكثر عديداً وأسهل إعمالاً ومناهزاً في القوة.
5ـ ما الدور الذي يمكن أن تؤديه فرنسا في هذا السياق؟ بل ما الدور الذي يمكن أن تؤديه فيه أوروبا بما يتخطى فرنسا؟ إنه دور المبادر (الذي يظل ضرورياً إذ يبدو أن قِطع آلية التدخل جاهزة للتشابك)، دور الميسِّر، دور المعمار. إن لفرنسا صوتاً قوياً. إنها تتمتع في المنطقة بالهيبة التي اكتسبتها من عملها في ليبيا. وثمة أواصر تاريخية تربطها ببلد جنة العاصي وبما كان في سالف الأزمان يُسمّى بالمشرق.
ثم إن مصادفة المواعيد تجعل فرنسا تتولَّى، لأسبوعين آخرين، الرئاسة التناوبية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فسيصعب في هذه الظروف فهم أن لا يُسخِّر رئيس الجمهورية، المنتَخب حديثاً والذي يتمتع من هذا الباب بسلطة أخلاقية غير منقوصة، الوسائل التي يهيئها له الوضع القائم. وسيكون من المؤلم أن لا يتم إعمال كل شيء لتسريع تشكيل هذا التحالف الكبير الذي لن يتسنّى إلا به جعل من وصفه وزير الشؤون الخارجية، رولان فابيوس، مرات عديدة بـ”جلاّد شعبه”، يتراجع ثم يغادر. فالدور الذي يمكن أن تضطلع به في الأيام المقبلة دبلُماسية فرنسية تقطع، كما في الحالة الليبية، مع “الفدرينية-الجوبيانية” هو تحفيز الطاقات، وتوحيد الإرادات المتقاربة والمتنوعة في آن معاً، وتشجيع المتردِّدين، وتثبيط الانهزاميين، والتوجه من الآن إلى ضمير كل واحد وضمير العالم انطلاقاً من هذا المنبر الفريد الذي يمثله مجلس الأمن مجتمعاً على سبيل الاستعجال وعلى مستوى وزراء الدول الأعضاء.
6ـ احتمال اشتعال المنطقة؟ ماذا لو كان الانخراط الإيراني المتزايد في المسألة يشكل عنصر خطر إضافياً، لم يكن موجوداً في حالة ليبيا؟ نعم، دون شك. لكن هذه الـمُحاجَّة يمكن أن تُعكَس. فما نكتشفه فعلاً من قوة الرابطة بين بشّار الأسد ومحمود أحمدي نجاد، ما كنا نتوجسه بشأن هذا المحور لكنه يُسفِر عن وجهه الآن فيما يخص هذا وذاك، يجب أن يولِّد لدينا شعورين:
أولاً رهبة التفكير فيما لو حدثت هذه الانتفاضة ضد النظام بعد سنة أو سنتين أو خمس سنوات، في عالم يكون فيه حليفه الإيراني قد بلغ العتبة النووية العتيدة التي يَنشدها: إنه كان عندها سيمارس أقصى حد من الابتزاز؛ واحتجاز الرهائن، دون رد من المجتمع الدولي؛ كنا عند ذلك سنتعرض لخطر أسوأ من احتمال اشتعال المنطقة، كنا سنتعرض لاحتمال نهاية العالم. ثم هناك العزم على اغتنام هذا الوضع سعياً إلى إضعاف “القوس الشيعي” الذي انطلق من إيران ليبلغ حزب الله ومتزمتّيه المناصرين لإيران مروراً بدمشق، وببغداد بقدر أقل، بل إلى كسر هذا القوس في حلقته الأضعف: إن التدخل في حلب سيعني وقف الحرب على المدنيين التي أوقعت حتى الآن أكثر من عشرين ألف قتيل ـ وهذا هو الجوهر ـ ؛ لكن لـمّا كانت مصلحة الأمم المفهومة جيِّد الفهم تتجاوب، على غير العادة، مع شاغل الإنسانية حيال الجرائم المرتكبَة ضدها، فإنه سيضرب أيضاً في الصميم، قبل أن يفوت الأوان كلَّ الفوات، مثلثَ الحقد هذا الذي يهدد المنطقة، بل ويتخطَّاها ليهدد العالم. فنتيجةُ التدخل لن تكون اشتعال المنطقة، بل تقليص خطر اشتعالها. لن تكون نتيجته الحرب بل تبريد وحدة النبذ المركزي التي تُحضَّر فيها حروب الغد.
7ـ ماذا بعد بشّار الأسد؟ وما مصير الأقليات، ولا سيما المسيحيين، الذين يتلاعب النظام القديم بهم ويسعى إلى جعلهم يعتقدون أنه حاميهم التاريخي؟ المسألة كبيرة الأهمية. وكل شيء ممكن ـ حتى أسوأ الاحتمالات… ـ في بلد مدمَّر، بلغ فيه التوتر ذروته بفعل العنف، ويضيف فيه كلُّ يوم يمر نصيبَه من الخراب، ومن الغضب العاجز، ومن البحث عن كبش فداء، وبالتالي من تصفيات الحساب.
“طلب ضمانات فيما يخص طبيعة الدولة المقبلة”
إن المجتمع الدولي، أولاً، لا يفتقد الحيلة إزاء مثل هذه الأوضاع، ويمكن تماماً أن نتصوَّر، فيما يخص سوريا ما بعد المذبحة، صيغة مشابهة للصيغة التي حالت، في كوسوفو، دون صبِّ جام الغضب على الصرب الذين بقوا هناك، والتي يُفوَّض بموجبها، في الحالة السورية، إلى قوة تابعة للأمم المتحدة، أو قوة عربية محضة، أمر السهر على إعادة الإعمار الأهلي.
ثم إنه ما من شيء يمنع قادة التحالف الذي سيرسل طائرات الحرية لإنقاذ حمص والحولة وحلب من أن يشفعوا مبادرتهم بطلبات ضمانات فيما يخص طبيعة الدولة المقبلة والوضع الذي سيكون فيها للأقليات الطائفية. وبالطبع لن يكون مثل هذه الضمانات حماية أكيدة أبداً. لكن السابقة الليبية تشكِّل من هذه الناحية أيضاً اجتهاداً يقاس عليه وله حجّيته. فقد رأينا جيداً كيف تسنَّى للغرب الصديق الـمُنقذ، الـمُحرِّر، أن يُدلي بكلمته في مناقشات فترة ما بعد القذافي.
فرفض الإرهاب، وتقليص النزوع الإسلامي، وانتصار المعتدلين الانتخابي، ثم تفادي روح الثأر المعمَّمة: تلكم علامات على نضج شعب اكتسب من محنة المعركة عَظَمةً، ونبلاً، واستنارة، وتحرراً من بعض شياطينه؛ وتلكم أيضاً ثمرة تآخ في السلاح لم يسبق له مثيل بين شبيبة عربية وطيّارين ومسؤولين أوربيين بدَوا على هيئة أصدقاء، لا للطغاة بل للشعوب. إن هَمَّ تحقيق هذا التآخي سيكون عند اللزوم سبباً آخر لتطبيق واجب حماية المدنيين في سوريا دون تأخير.
ترجمه عن الفرنسية محمود الغباش