تملكتني في الأيام الأخيرة للقذافي هواية متابعة التلفزيون الليبي. وهذا يعني الجلوس ساعات طويلة وغير مُسلية، والصبر على حماقات وسخافات نشرة الأخبار، والتحليلات “السياسية”، والبث المباشر من “الساحة الخضراء”. عادت الهواية، وقد أصبحت هوساً هذه الأيام، ولكن أمام شاشة التلفزيون الرسمي السوري.
وإذا كان ثمة من تفسير لهواية كهذه، فإن السر يكمن في مبدأ الفرجة، وقد حقق في هذه الحالة انزياحاً ربما لم يخطر على بال من كتبوا الكثير عنه من قبل، وأعني بذلك الفرجة على نظام يلفظ أنفاسه، وملاحقة وتسجيل علامات موت النظام. يُمارس الناس، في مبدأ الفرجة، التطهير، والتسامي، والتماهي، والتجاوز، بيد أن المضمون السياسي للمبدأ غالباً ما نال قدراً أقل من الاهتمام، مع استثناءات قليلة وانزياحات في مكان آخر.
فلنقل إن النظام يشبه حيواناً خرافياً بألف عين ورأس وذراع، كلما قطعناً رأساً نبتت في مكانها رؤوس، وكلما انتزعنا ذراعاً من مفصلها، تملّصت من أيدينا، والتصقت بجسدها المعدني القاتم، أو انصهرت لتتحوّل إلى سائل حارق ولزج. هذه الصورة شائعة في أفلام الخيال العلمي، خاصة ما تعلّق منها بالغابات العتيقة، والمجرّات البعيدة.
ثاني الصور مستمدة من أفلام دراكيولا: يموت الشاب الوسيم الأنيق الرقيق بضوء النهار، أو بصليب من خشب غرسه الكاهن في القلب، فتتغيّر الملامح، ويتجعد الجلد، ونرى وجهاً قبيحاً لعجوز في أرذل العمر، قبل انكماش الجسد وقد أصبح تراباً، أو كومة من عظام بالية.
وثالثها مستمد من تمثيلات الليفياتان الوحش البحري الخرافي في الأساطير الشرقية القديمة، وفي التوراة، الذي يعتبر مرّة واحداً من سبعة أمراء للجحيم، ومرّة حارس بوابة الجحيم، أو هو الشيطان نفسه، ويأخذ أحياناً هيئة تنين ينفث النار. والواقع أن هذه الصورة تكمن في جذر كل أفلام الخيال العلمي، والتمثيلات القيامية في الأدب والفن. وهي، في الواقع، تكمن في جذر كلمة النظام، كلما وردت في هذه المقالة.
انتقلت صورة الليفياتان من الأساطير إلى السياسة بعد كتاب توماس هوبز في القرن السابع عشر، الذي وضع فيه تصوّراً يقوم على تنازل الناس عن الحق الطبيعي، الذي يخوّلهم أن يفعلوا في سبيل البقاء ما يحلو لهم، كشرط مسبق لقيام الدولة. وفي الوقت الحاضر تعني كلمة الليفياتان في المعاجم الغربية الدولة الشمولية.
يمكن العثور في تلك الصور مجتمعة ـ وكلها مجازات إنسانية لما هو أبعد من المجرّات، وأصعب من دراكيولا، وأعقد من أسطورة الليفياتان ـ على مفردات بصرية تحيل إلى نظام يشبه حيواناً خرافياً في النـزع الأخير.
مثلاً، أصوات القذائف، والدخان يتصاعد كالفطر الخرافي بين بنايات سكنية، ويحوم فوق مدنية تتعرّض للقصف. في هذا، مع تعديل طفيف، ما يعيد إلى الذهن زمجرة الحيوان الخرافي، والدخان الذي ينبعث من منخريه وفمه، والغبار الذي يتصاعد تحت حوافره. ويحيل مشهد طابور الدبابات والعربات المصفحة تحت غبش الصباح، وفي عتمة الليل، أو وراء ستارة الدخان، إلى الذراع المعدنية للحيوان الخرافي.
ولكن هذه المشاهد تقليدية تماماً. فلنفكر في صور مركّبة، أي أكثر تعقيداً. ومنها ذلك المشهد الذي واظب التلفزيون الليبي على بثه في أيامه الأخيرة، وأعني مشهد “الساحة الخضراء” حيث نرى سيّارات تعبر الساحة، ورجال شرطة ينظمون حركة المرور، وبعض المارّة، وتحت هذه كله عبارة تقول: الساحة الخضراء الآن. كانت الثوار الليبيون قد سيطروا بالفعل على بعض أحياء طرابلس، لكن الساحة الخضراء، على شاشة التلفزيون، ظلت هادئة، ومسالمة، وشبه سياحية. كانت الصورة كاذبة، بطبيعة الحال، ولكنها في سياق آخر تشبه عين الحيوان الخرافي، وقد سقط على الأرض بعدما أثخنته الجراح، لكنه يرمقنا بنظرة ثابتة، وهادئة، كأنه لا يصدق ما أصابه.
تكرر المشهد نفسه على شاشة التلفزيون السوري، بعد مقتل بعض كبار القادة الأمنيين، واندلاع اشتباكات بين الثوار وقوات النظام، في بعض أحياء العاصمة دمشق. والاختلاف الوحيد أن المشهد السوري جاء من ساحة الأمويين، وتوسطت الشاشة عبارة تقول: ساحة الأمويين الآن.
بمعنى آخر، كان الثوار السوريون على مسافة قصيرة من ساحة الأمويين، بينما “ساحة الأمويين” تشبه عيناً خرافية ترمق السوريين، والفضوليين في أماكن أخرى من العالم، بنظرة صامتة، كأن هذا كله مجرد وهم، طالما ظلت العين مفتوحة، وظل التلفزيون، قادراً على البث، أي على قيد الحياة. إذا عاش التلفزيون عاش النظام.
ومن المشاهد المركبة المقابلات مع مواطنين “صالحين”، ومحللين “بارعين” يشيدون بقدرة النظام على دحر المؤامرة والمتآمرين. ومن هؤلاء، في الحالة الليبية، معتوه اسمه يوسف شاكير، قال مرّة إن طفلاً زاره في الحلم، ونصحه بضرورة أن يبول جنود العقيد على سلاحهم قبل استخدامه، لأنه مرصود، أي أصابته تعويذة شيطانية.
وعلى القدر نفسه من العته في التلفزيون السوري شخص اسمه طالب إبراهيم، يجيد العربية أكثر من شاكير، ويحلل “الأزمة” مستعيناً بأبيات من الشعر، للوصول إلى نتيجة مفادها أن الانتصار في “الجيب” تقريباً، بفضل “الجيش العربي السوري”، وسبعة آلاف سنة من الحضارة السورية، وقدرة القيادة على إبطال التعاويذ الشيطانية للأميركيين والإسرائيليين وبعض العرب. يحيل هذا وذاك، في الذهن، إلى برهة سمتها الصدمة والذهول تسبق تحلل الوجه، وزحف التجاعيد، بقوّة ضوء النهار، والطعنة في القلب.
وهذا كله يشبه اختلاجات تسري في جسد ذلك الحيوان الخرافي في ساعته الأخيرة. عمّا قليل ستكف الأطراف المعدنية عن الحراك. لا مزيد من نفث الدخان، ولا من “ساحة الأمويين” الآن. لم يحدث ما يشبه هذا في التاريخ العربي من قبل، ولن يفسّره سوى أسطورة تستعيد حيواناً أسطورياً كان حارساً لبوابة الجحيم.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني