وادي سوات: شمال غرب باكستان، محافطة فقيرة، سكانها من أبناء القبائل الباشتونية، تقع على الحدود الشمالية الغربية مع أفغانستان، في كعب جبال همالايا الشاهقة. يحكمها تنظيم «طالبان» الاسلامي المتطرف منذ العام 2009، بعد اتفاقه مع الحكومة الباكستانية، يُعرف باتفاق «السلام مقابل الشريعة»؛ يمتنع تنظيم «طالبان» بموجبه عن التعرّض للجيش الباكستاني، مقابل ترك المجال مفتوحاً أمام تنظيم «طالبان» بتنفيذ برنامجه القاضي بتطبيق الشريعة الاسلامية. منذ توقيع الإتفاقية، اشتهر هذا الوادي بالإعدامات الميدانية وقطع الرؤوس، وبالجلد والرجم، وإغلاق مدارس البنات، كلها، حتى الابتدائية منها.
ولكن الأميركيين لا يعتبرون أنفسهم طرفاً في الاتفاق، يصولون ويجولون في أجواء الوادي، قاصدين، هم أيضاً، بطريقهم، «طالبان» الأفغانية، وحاصدين أرواحاً بريئة من نساء وأطفال. وضع «عادي» إذن، يرتبط بموجبه تطبيق الشريعة بالعقوبات الجسدية وبحرمان النساء من التعليم، بعد إقصائهن من العمل ومنعهن من الخروج من المنزل، مقابل تصدّي دعاتها للامبريالية… ولكن خيال «طالبان» ليس محدودا الى هذه الدرجة. تطبيق الشريعة لا يقتصر عندهم على فرض العقوبات «الكلاسيكية»، إنما يمتد الى النيل من صحة أطفال الوادي، بناتاً وصبياناً. وقد أعطى نهاية الشهر الماضي نموذجاً حياً عمّا يعنيه خيالهم التشريعي: منظمة «اليونسيف»، وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة، تهتم برعاية صحة الاطفال في العالم، طلبت إذنا من «طالبان» بالحاح شديد بأن يسمح لها بتطعيم أطفال الوادي، البالغ عددهم 161000 طفلا؛ ذلك ان باكستان ضربت الرقم القياسي بعدد اصابات شلل الاطفال لديها، 198 حالة فقط العام الماضي. الملا حافظ غوا بهادور، أحد قادة «طالبان» في الوادي أعلن عن رفضه القاطع تطعيم الاطفال. و»حجته» ان الاميركيين يقصفون الوادي، وانهم بذلك يزرعون الاضطراب وسط السكان، وان الطائرات من غير طيار «أكثر خطورة من شلل الاطفال». وبما ان اليونيسيف اميركية غربية، وُجب إذن مخالفة إرادتها. وموقف الملا عمر ليس متوقعا له اللين، بعدما «توسطت» شخصيات باكستانية وطنية معه ليخلي المكان لمرور الدواء الذي سوف يحمي اطفال «إمارته» من الشلل.
على بُعد آلاف كيلومترات من وادي سوات، في شمال مالي التي أصبحت الآن، وبعد ثلاثة اشهر من القتال، تحت سيطرة تنظيم «أنصار الدين» السلفي ، بالشراكة مع تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي». حدث ذلك بعد حربين: الأولى قسّمت مالي الى شمال وجنوب، والثانية طردت حلفاء «أنصار الدين»، الطوارق العلمانيين الذي شاركوه في تقسيم مالي والاستيلاء على شمالها. فأعلن تنظيم «أنصار الدين» بعد المأثرتَين عن نيته تطبيق الشريعة الاسلامية، وباشر عمله بمنع التلفزيون وألعاب الفيديو والموسيقى والنزهات للرجال والنساء… اللائحة طويلة ويمكن تخمينها. ولكن المهم أن في الشمال المالي هذا تقع مدينة تومبوكتو، «لؤلؤة الصحراء»؛ أو «مدينة الـ333 ضريحاً» لأولياء صالحين، وثلاثة مساجد ضخمة وجامعة قرآنية وعشرات الآلاف من المخطوطات بالعربية، تعود كلها الى القرنين الخامس عشر والسادس عشر… عندما كانت تمبوكتو مركز إشعاع اسلامي في مجالات الأدب والفنون والعلوم والطب، أعطت صورة عن الاسلام المتسامح، المنفتح… حكومة مالي الجنوبية التي فقدت سيطرتها على الشمال طلبت من اليونيسكو وضع المدينة على لائحة التراث العالمي. لبّت هذه الاخيرة الطلب، فخرجت بالإعلان عن تومبكتو مدينة تراث عالمي للبشرية، معتقدة انها بذلك انما تحمي هذا التراث من الفوضى المسلحة، وما قد تجرّها من سرقات وتهريب ودمار… لم يحضر في بال اليونيسكو، وهي منظمة دولية، كما اليونيسيف، تابعة أيضاً للأمم المتحدة، هي العارفة والعالمة، ان إعلانها القاضي بحماية كنوز المدينة التاريخية، سوف يعرّض هذه الكنوز للخطر. إذ ما أن سمع قادة «أنصار الدين» السلفيون بهذا الاهتمام لليونيسكو بتراث المدينة، حتى اتخذوا قراراً بهدم أضرحتها الأثرية. فحملوا المعاول والسواطير وصرخوا «الله واكبر»، وانقضّوا على البدائع. حتى الآن ليس معروفا عدد الأضرحة المحطمة، بلغت الأربعة في أول تموز، وربما أكثر… فالإعلام ممنوع من التغطية هناك. ولكن الأرجح ان الحبل على الجرّار…
تحطيم الأضرحة في تومبكتو ليس بالسابقة. قبل ذلك بعشرة أعوام أمر القائد الطالباني الملا عمر بتحطيم تماثيل بوذا في باميان الأفغانية. يومها رأى البعض في هذا العمل تعبيرا عن التوق الى العودة الى جذور الطقوس الاسلامية الأولى القاضية برجم الاصنام وتحطيمها. ولكن بين باميان وتومبكتو خطى المتطرفون الاسلاميون خطوة متقدمة نحو العبث: لم ينالوا من تماثيل بوذية كافرة، انما انقضوا على بناء متقشف، يشبه الصحراء، ولا ينتمي الى دين آخر غير الاسلام. «أنصار الدين» هدم شهوداً على إسلام ماض لم تسبقه وثنية ولا لحقته حداثة مكروهة، لوثته بـ»موبقاتها وفجورها»… إسلام المتطرفين هو ضد الإسلام، ضد ذاكرة المسلمين السحيقة.
اما في وادي سوات، فالأمر أشدّ بأساً: فَهِم «طالبان» للشريعة أملى عليها مقايضة رفضها للهجمات الأميركية بصحة أطفال الوادي، أي بمستقبل الوادي نفسه. الاسلام الطالباني هنا، يقف، ليس فقط ضد النساء والحرية فحسب، إنما ضد صحة أطفال مهددة بمرض مستوطن على ارضهم. التطوران، الباكستاني والمالي، ينذران بحيوية الدمار وعبقريته…
خلف هكذا توجهات عقل هوياتي، لا يستطيع أن يقارب شؤون الدنيا والآخرة إلا من واقع هويته، أو ما يتصور انه هويته الوحيدة، أولاً، وما يتصور انه عدو هذه الهوية، ثانياً. يرى المتطرف الإسلامي بأنه مسلم، بالاثاث الثقافي الذي زوده به «أميره»، أو «مرجعه»، باستعجال المتحمس للمعركة أكثر من حماسته للمعرفة. «مسلم والسلام…»… بما تيسر من رموز وشعارات. أنا المسلم، ولست شيئاً آخر، وفي معركتي مع خصمي، استراتيجيتي واضحة: كل ما يريده خصمي، أنا أرفضه، أوتوماتيكياً. هذا العدو واحد، ما من غيره عدوا: اميركا، الغرب…. وبما ان مؤسساته النابعة منه، مثل اليونيسكو واليونيسيف، أرادت تطعيم الاطفال أو المحافظة على تراث «لؤلؤة الصحراء»، فنحن نعارض توجهاتها أو توصياتها، حتى لو كان الثمن صحة اطفال وتراث ديننا الحنيف.
هذا من ناحية من نعتبرهم بعيدون كل البعد عن نطاقنا الحضاري، فيما نحن غارقون حتى أذننا في العقل الهوياتي نفسه.
في هويتنا الجزئية أولا: نحن شيعة، سنة، موارنة، دروز، ارثوذكس… كما في واقعات وادي سوات وتومبكتو، نتقوم بادياننا ومذاهبنا، قائدة خياراتنا، ونتنافس على مخالفة مبادرات او توجهات «خصومنا» من الطوائف الاخرى العدوة. كم من الجهل بمصالحنا العامة، كم من الغباء في عدم التقاط الخيط الواحد بيننا. في لبنان لسنا بعيدين عن امثال «طالبان» أو «أنصار الدين»، عندما نرفض، بعد رفضنا لبعضنا البعض، وبعد حروب انتهكتنا، سلاماً عاماً… طالما اسرائيل أرادته. أو عندما لا تلهمنا مراجعات اسرائيل لأخطائها في حرب تموز، غير الشماتة بها، والتأكد بأننا ما زلنا على انتصارنا التاريخي والاستراتيجي عليها، فنعمنا بالوحدة والازدهار والاستقرار…
في الهوية الدينية الأعم ثانياً: ما جنته الثورات العربية حتى الآن، من بروز تيارات «هوياتية» لا ترى نفسها إلا إسلامية، تدعو لتطبيق الشريعة الاسلامية، بالتدرج او مباشرة (هو الفرق بين الاخوان والسلفيين)، من دون أن يتضح من معنى لهذا التطبيق الا ما برز في تجربتي «طلبان» و»أنصار الدين»، منذ أولى لحظات استيلائهما على السلطة: نقصد تطبيق العقوبات البدنية الوحشية ضد كل من يريا انه «خالف شرع الله». طبعا لا الاخوان ولا السلفيين أبدوا ردة فعل ما بازاء جريمتي «طالبان» و»أنصار الدين»؛ مع انهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على ما يعتبرونه «تجديفاً في الدين»؛ مثل ذاك الهجوم الذي شنه سلفيو تونس بالعصي على معرض فني واتلفوا محتوياته… لم يقل لنا هؤلاء موقفا أو رأيا حول تلك التطبيقات الغريبة للشريعة الاسلامية. ولن يوضحوا لنا المعنى الدقيق لتطبيق الشريعة؛ فهم على الرغم من صعودهم، أو ربما بسببه، غير معنيين الا بالحصول على رقبة مجتمع بالحسنى…
ندرك ان قادة العقول الهوياتية يفكرون ببراغماتية عالية، وبأن تمسكهم بالطائفة او الدين انما هو من ضمن عدّتهم في الحكم. هذه حال «طالبان» و»أنصار الدين»، كما هو حال طائفيينا وإسلاميينا القائلين بحكم طائفة أو تطبيق شريعة، على عجل أو على مراحل.
dalal.elbizri@gmail.com
*كاتبة لبنانية
المستقبل – الاحد 22 تموز 2012 – العدد 4407 – نوافذ – صفحة 10