لا شك ان المقاومة في لبنان، التي يقودها ويختصرها حزب الله منذ اكثر من عقدين، تحمل بعدين متداخلين على مستوى بنية هذا الحزب. فإذا كان ثمة بعد وطني في حركة الحزب ضمن مشروع المقاومة، فإنّ هذا البعد شكّل الحاجة او المنفذ لتغوّل بعد آخر هوالمصالح الاقليمية التي استحوذت على المشروع بشكل شبه كامل منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي. مصالح جعلت “حزب الله”، بحكم طبيعة تأسيسه والأيديولوجيا والتمويل والتبعية، يقدّم المشروع الإيراني – السوري، ببعد السيطرة على لبنان، أمام أيّ مشروع آخر.
وشكّلت المرحلة الممتدة من العام 1985 حتى العام 1990 المعجن الفعلي لتبلور المشروع الايراني – السوري في لبنان بعد محطات دموية بدءا بحرب المخيمات الفلسطينية خلال العامين 1985 و1986، التي توجّت إمساك دمشق بالمخيمات في لبنان، والتي استُكملت بضرب كل ما هو وطني وقومي ويساري وخنقت دوره في المقاومة العسكرية ثم مهّدت، بالمعارك الدموية من 1988 حتى 1990 بين “أمل” و”حزب الله”، إلى إقامة “التحالف المذهبي السوري – الإيراني”. تحالف نجح في انهاء اي مظهر للمقاومة خارج المظلة الايرانية والقبضة السورية وحزب الله.
النظام السوري، منذ بداية الحرب في 1975، إنخرط في الحرب اللبنانية ونجح في استثمارها لتطويع البلد بعد تدميره، فساعد حينا الجبهة اللبنانية في مواجهة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية بعدما تلقى الضوء الاخضر الاسرائيلي للدخول الى لبنان عبر اتفاقية “الخطوط الحمر” مع اسرائيل في 1976، ثم عاد وخاض معارك مباشرة في 1978 مع الجبهة اللبنانية. وكان وسط هذه المواجهات يرسخ وجوده العسكري ويطلق يد جهازه الامني للسيطرة والافساد في لبنان وعلى كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعاد واستكمل ما فات اسرائيل بعد طرد المقاومة الفلسطينية من بيروت وقوضه منذ 1985 وصولا الى اتفاق الطائف الذي نجح مجددا وبضوء اخضر اميركي – اسرائيلي في احتوائه ثم تجديد وصايته على لبنان.
في هذه السنوات، كانت ابرز القيادات السنية تدفع ثمن عدم تماهيها مع المشروع السوري: قُتل المفتي الشيخ حسن خالد، ابعد الرئيس صائب سلام عن الحياة السياسية، تم القضاء على الوجود السياسي والعسكري لحركة “المرابطون”، وابعد كمال شاتيلا وغيره وتم اغتيال على سبيل المثال لا الحصر النائب ناظم القادري في البقاع وخليل عكاوي في طرابلس ونجحت سورية، مستندة الى تحالفها مع ايران، في استيعاب اتفاق الطائف بما يتلاءم مع استمرار وجودها في لبنان. ورغم ان الرئيس رفيق الحريري شكل وجوده في السلطة بعد العام 1992 دعامة للوصاية السورية، فإنّ محاولاته التي برزت بعد العام 2000 لاستعادة استقلالية نسبية لبنانية وسياسية عن نظام الوصاية في لبنان، أدّت الى قتله في العام 2005.
في كل الاحوال أطلقت الثورة السورية، كما يعبر احد المتضامنين اليوم مع حركة الشيخ احمد الاسير في صيدا، حركة تعبر عن الرد الطبيعي الذي يستوعب الماضي وما فعله النظام السوري في لبنان، في الساحة السنية بمفرده حينا وبعون حزب الله في مراحل لاحقة. وهو ردّ بدأ بالجملة والتفصيل على نتائج الدخول السوري الى لبنان في العام 1976، ورأى أنّ حزب الله شكل في المراحل الاخيرة، ومنذ العام 2005، القوة الضاربة في لبنان للتحالف الايراني – السوري.
إزاء حركة الاسير التي تشهد تعاطفا لبنانيا، ليس على صعيد قطع الطرق بل في قدرته على التعبير وحمل مطلب قسم كبير من اللبنانيين. مطلب يختصر في أنّ السلاح، بمختلف أشكاله، بات عبئا على الحياة اللبنانية، وتحوّل في يد حزب الله إلى عنصر استقواء ضمن اللعبة السياسية الداخلية، ووسيلة تمييز بين اللبنانيين اتجاه القانون. علما ان موقف “تيار المستقبل” وسواه من القيادات السنيّة يتفق مع الاسير على الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، لكن يختلف معه في الاسلوب.
هذا خصوصًا ان انصار الاسير مبتهجون بصمت حزب الله ويعتبرون ان الحزب يستصغر حجر الاسير الذي اطلقه باتجاهه، ويدرك ان هذا الحجر “صييب”. وأيّ شكل في الرد على الاسير بالعنف، وإن كان عبر فرقة عسكرية يقودها فؤاد السنيورة، لن يصدق أحد أنّه ليس قرار حزب الله.
الاسير ليس الا عنوانا في مرحلة دقيقة، فإذا حاول الحزب أن يشقه سيجد خلفه جحافل الاسلام السياسي السنّي ، من مصر الى تونس الى دمشق وليبيا وعلى امتداد العالم العربي.
الاسير مأزق ليس له حلٌ في حساب التصفيات الدموية الجارية في سورية اليوم: ولبنان في صلبها وربما الأسير هو نهاية مرحلة لبنانية سابقة.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد