ليلة الرابع عشر من تموز 1789 سمع لويس السادس عشر بسقوط الباستيل، وتمرّد القوات الملكية، فصاح بأحد معاونيه قائلاً: إنه تمرّد، وكان رد الأخير: كلا، يا صاحب الجلالة إنها ثورة”.
كل ما عرفه بنو البشر في القرنين التاسع عشر والعشرين كان تأويلاً لما جاء في ذلك الحوار القصير، سواء تعلّق الأمر بفلسفة التاريخ، ونظريات السياسة، أو “علم” الثورة.
مفردة التمرّد في هذا الحوار مفهومة، تعني أنه ثمة مَنْ تحدى السلطة المطلقة، ويجب الرد عليه، وإحباط تمرّده. أما كلمة الثورة فهي الإشكالية، ففي تاريخها، وطريقة تأويلها منذ وردت في ذلك الحوار القصير وحتى الآن من المفارقات والالتباس والتفاوت في التعليل والتأويل ما لم ننج منه بعد. وهذه مفارقة أولى: كيف لم ننج بعد وما تنطوي عليه كلمة الثورة من دلالات يكاد يتاخم حد البداهة؟
تكلّم لويس السادس عشر عمّا عرف من قبل. وقعت على مر العصور حالات تمرّد. وتكلّم المعاون عمّا لا يعرف، أي عن حدث جديد وغير مسبوق في التاريخ. ولعل هذا ما يتجلى بصورة أوضح بالعودة إلى أصل كلمة الثورة نفسها. ظهرت المفردة للمرّة الأولى في القرن السادس عشر، على يد كوبرنيكوس، كمصطلح من مصطلحات علم الفلك، وكانت تعني الدوران الثابت للنجوم.
وقد انسجم هذا التعبير مع تأويلات فلسفية في الأزمنة القديمة، وفي عصر النهضة، لحركة التاريخ، التي تتسم بحركة دائرية ثابتة، أي خارج إرادة الفاعل الإنساني نفسه. والدلالة السياسية أن أشكال الحكم القليلة التي عرفها بنو البشر تتكرر بثبات يشبه الحركة الدائرية للنجوم. وفي هذا السياق استُخدمت كلمة الثورة للمرّة الأولى في انكلترا، لا للكلام عن “ثورة” كرومويل، الذي ألحق الهزيمة بالملكيين في الحرب الأهلية، بل للكلام عن استعادة العرش، وعودة النظام الملكي.
لذلك، عندما نشبت الثورتان الفرنسية والأميركية (وكلتاهما أمٌ لما عرفه بنو البشر من ثورات في القرنين التاسع عشر والعشرين) اقترح توماس باين، وهو أحد المثقفين الراديكاليين، وأحد مؤسسي الولايات المتحدة، إطلاق تسمية الثورة المضادة على الثورتين المذكورتين، وذلك في معرض الرد على تأويل كلمة الثورة باعتبارها تسمية للثبات والتكرار في التاريخ.
لم تصمد تسمية باين، بطبيعة الحال، لكن فكرته صمدت، واكتسبت كلمة الثورة بفضلها دلالة جديدة. ومفاد هذه الفكرة أن ما حدث في الثورتين الفرنسية والأميركية، جديد وغير مسبوق في التاريخ الإنساني، وفي هذا ما ينسف فكرة التكرار والثبات.
ولكن ما هو الجديد؟
الجديد، وهذا يُعيدنا إلى حنه آرنت، ولادة فكرة الحرية، وتزامن فكرة الحرية مع إدراك أن تجربة جديدة في التاريخ الإنساني قد بدأت. ليس في جذر هذا الإدراك، بل من نتائجه صعود زمن السهم بدلاً من زمن الدائرة.
بمعنى آخر، هبط النظام والانتظام والتكرار من السماء إلى الأرض، وأصبح الإنسان فاعلاً في التاريخ، ومرفوعاً على ساعد شيء اسمه المسألة الاجتماعية: مسألة الفقر والغنى باعتبارها من صنع إنسان ضد إنسان آخر، وليست جزءاً من النظام الطبيعي للأشياء. وأصبحت الحرية مشاركة في الشأن العام.
وهذا شيء مخيف حتى في نظر الثوريين أنفسهم، الذين صنعوا تلك الثورات. فالاعتقاد بأن ثمة تجربة جديدة في التاريخ لا يجعل الناس ثوريين، بل يجعلهم محافظين، والجديد في الثورات ـ وما نـزال على خطى آرنت ـ يتجلى باعتباره جديداً دون إرادة الفاعلين الثوريين. مثلا، لو لم يتسلق اثنان من المتظاهرين السور الخارجي للباستيل، ولو لم يفقد آمر الحرس أعصابه ويطلق النار عليهم، خشية أن يكونوا مقدمة لهجوم وشيك (لم يكن وشيكاً في الواقع)، ربما سارت الثورة الفرنسية في اتجاه آخر.
فكّروا في أشياء من نوع: لو لم يفقد بن علي أعصابه، ولو لم تقع موقعة الجمل القاهرية، ربما اتخذت الأحداث في تونس ومصر مساراً آخر. لم يكن شعار إسقاط الرئيس على جدول الأعمال في تونس والقاهرة في اليوم الأوّل، ولم يُطرح شعار إسقاط النظام إلا بعد مرور أيام على اندلاع المظاهرات وأعمال العنف في البلدين. بيد أن الجديد، بالمعنى التاريخي، ليس هنا، بل يكمن في حقيقة أن الأحداث تتلاحق وتتطوّر بطريقة لم يتصورها أحد حتى قبل وقوعها بيوم واحد. والجديد، أيضاً، ليس وصف ما يحدث بهذه الطريقة، بل اكتشاف مضمونه، ومضمونه يعني ولادة الفاعل الإنساني، مرفوعاً على ساعد المسألة الاجتماعية. وهذا الفاعل يتجلى في سيل جارف من بني البشر، لا يتمكن أحد من إيقافه.
نفهم، في هذا السياق، ومن منظور الحاضر، كلاماً لروبسبير قبل مائتين وثلاثة وعشرين عاماً: “الثورة الحاضرة أنتجت خلال بضعة أيام من الأحداث الجسام أكثر مما أنتجه تاريخ البشرية السابق بأسره”. ولا ينبغي، بالضرورة، ترجمة هذه الكلام بطريقة حرفية، المهم أن المضمون العام صحيح تماماً. وصحيح، أيضاً، أن ما شهده العالم العربي من أيام مجيدة في القاهرة وتونس، وما يزال يشهده فيهما وفي بلدان عربية أخرى، غير مسبوق في التاريخ العربي برمته.
لا يتسع المجال، هنا، لمعالجة طريقة المنظّرين الثوريين في تأويل تلك اللحظة النادرة في التاريخ الإنساني: ولادة الجديد. وقد حاول ماركس، وهو أحد أعظم الثوريين في الأزمنة الحديثة، إنشاء نظرية للثورة تقوم على التلازم بين الضرورة والحرية. وهذا موضوع آخر.
المهم، وبالعودة إلى آرنت، أن الثورة لم تكن موجودة قبل العصر الحديث، وأن العلمانية أصل الثورة. وفي هذا التشخيص يكمن مأزق الإخوان المسلمين، وبقية حركات الإسلام السياسي، هؤلاء صعدوا على أكتاف الثورة (وهي حقيقية بالمعنى الحديث للكلمة)، لكن مخيالهم السياسي محكوم بزمن الدائرة، وهم بهذا المعنى أقرب إلى الملكيين الإنكليز و”ثورتهم” منهم إلى كرومويل.
وهذه مفارقة من عيار ثقيل: محكوم على ثورة لم يبادروا إليها، وصعدوا على أكتافها، إما أن تكون استعادة للماضي تلبية لطموحهم الأيديولوجي والسياسي، أو بداية لتجربة جديدة تلبية لطموح الملايين في ميدان التحرير.
هذا التناقض بين أمرين على طرفي نقيض، سمة رئيسة من سمات الثورة المصرية، وبقية الثورات العربية مع تحفظات ضرورية هنا أو هناك، في المدى القصير والمتوّسط. وهذا مجرّد تأويل لمن يهمه الأمر.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني