كل يوم تكتشف في شارع “الحمرا” في بيروت، مقهى جديداً. ومن لا يعرف زواريب الشارع الرئيسي ورمز الزمن الجميل، لا يعرف المدينة التي تبدو هذه الايام في مزاج اخر، تمشي عكس التيار، مع افتتاح مئات النوادي والمقاهي ويمكن ان تحصي في زاروب واحد او زاروبين عشرات الكباريات الليلية التي تعج بالساهرين ولا تجد فيها مكاناً او كرسياً شاغراً واحداً فيها . تعيش العاصمة بيروت وفي شارعها العريق تحولات غريبة لا تشبه اجواء التوتر السياسي في الخارج بين الجماعات اللبنانية واجواء من عدم اليقين السياسي والاقتصادي والمالي التي تسود البلاد على المستويات كافة . كل يوم تكتشف تلك التحولات وانت تجول في الشارع. اجواء حياة ومقاومة للضغوط الخارجية و كل اشكال العبث بالسلم النفسي والاعصاب عند اللبنانين .
ما يعيشه شارع الحمراء، الذي عاش ما عاش في ظل الايام القاسية والحزينة، يعكس مؤشرات عن مناخات اخرى عند اللبنانين. فالشارع الذي كان يقفل السابعة أو الثامنة مساء في السنوات الماضية وايام الحصار، عاد اليوم يتدفق حياة. وانجزت الى الان اكثر من مئة رخصة لملهى ليلي (“كباريه” أو “بار”) في الشارع تنتشر في اطرافه ، وفي الزواريب الداخلية، الى ما يشهده من افتتاح نحو اربعين مقهى، وكلها مقاهي حديثة الطابع وبجمالية رائعة وتصميم هندسي ومعماري جميل. الطريف ان كل يوم في حياة الشارع يشهد افتتاح بار او مقهى ويشهد في المقابل اقفال محلات عمرها مئات السنين!
اللافت أنه في الوقت، الذي، تزدهر فيه ظاهرة اقفال المقاهي في العالم العربي في غير عاصمة عربية يشهد الشارع الأبرز عربياً فورة مقاهي، وهذه ان دل على شيء فهو يدل على رغبة وشغف جديد عند اللبنانين بالتلاقي على اشياء لا تفرقهم ومع استحالة جمعهم على طاولة حوار اخرى . واذا كان ازدهار المطاعم قد طغى في ظروف الحرب والاقتتال والعنف والفوضى. فأن ظاهرة عودة وانتشار المقاهي والكباريات في طول الشارع ومنحنيات جسده علي اليمين واليسار . هذا يعني فيما يعني رغبة اللبنانين بمزيد من السلم الأهلي ومن ارادة التلاقي والحوار، حيث تجتمع على الطاولة الواحدة نفسها اطياف المشهد السياسي المختلفة في الخارج، من احزاب وتيارات مختلفة وناس بالمئات والمئات في كل ليلة، ناس لا تعرفهم من كافة الشرائح والفئات والمذاهب والاجناس ، يجتمعون معاً على الطاولات يتحاورون ويتناقشون ويتنقلون بين هذا النادي وذاك مثل الهواء.
هذا الجو المديني في شارع الحمراء ينسحب ايضاً حتى ساعات الصباح الاولى، عكس الايام الماضية حين كان الشارع يقفل على مزاج رجال الاحزاب والميليشيات المنتشرة في المحلة. ويتوسع المشهد ايضاً ليتصل بوسط المدينة التجاري حيث حركة المقاهي والرواد مع الاعلان عن تجهيز اكثر من 30 صالة سينمائية بمواصفات عالمية وعشرات المقاهي. كأن هناك عودة بالمكان الى ما يشبه الزمن الجميل في الخمسينات والستينات!
والمناخ الذي ازدهر في المحلة.. هذا الاشغال قد تكتشف معه تحولات المدينة وناسها، وبكل عري الشارع الحنون في الليل. ويكفي المشي ساعات الليل في الشارع وخطوات في هذه الناحية الخلفية او تلك للتأكد من ان مفقودات الاشياء في المدينة موجودة في الليل…
باختصار، انها بيروت تمشي عكس التيار وعكس الاحباط. بيروت مدينة مشاكسة تفاجئ دائماً، تلبس جسداً واخر وتعرف كيف تخرج من خيباتها الدائمة الى اضواء الليل الخافت لكن المشبع بالصخب الداخلي المثير والمجنون.
ytakki@hotmail.com
كاتب لبناني- بيروت