قبل ايام قليلة كتبت على صفحة الفايسبوك الخاصة بي: “بعد أكثر من نصف قرن عربي نستخلص ان مقولتَي الدين وفلسطين كانتا ذريعتين نموذجيتين للاستحواذ على السلطة والمجتمع…حتى بتنا بلا دين وبلا فلسطين…”.
هذه العبارة، قياسا إلى سابقات كتبتها على الصفحة نفسها، اثارت اهتماما زائدا لدى اصدقاء في هذا الفضاء الافتراضي، وان كان البعض منهم رأى فيها انتقاصا من تديّنه، او عدم اقرار مني بايمانه الراسخ بقضية فلسطين، ما يدفعني إلى القول إنّ هذه التعليقات ليست إلا تثبيتا للمقولة هذه وترجيحا لها.
أحد الردود المعترضة عبّر كاتبها بحماسة عن ثقته بتحرير فلسطين قريبا “بفضل الله وحزبه”… لكنّ صديقا آخر قال: “أصبح الجميع يتاجر بالدين وبقضية العرب والمسلمين الأولى قضية فلسطين، حتى فقدنا تمسكنا بديننا وتلاشى الإهتمام الفعلي بقضيتنا…”. وثالث كتب: “فلسطين والدين باتا في زماننا الحاضر مطيتين لللاستحمار الجديد للعرب والمسلمين…”.
تحيلنا هذه التعليقات، وغيرها من التي تدور في فلكها، إلى أنّ معظم انظمة الحكم في العالم العربي، فضلا عن القوى والاحزاب، شكلت احدى هاتين المقولتين، او كلاهما، سلاحا لها من اسلحة الدفاع او الانقضاض على الخصم، اي الشريك الوطني والقومي او الديني او الانساني بدل ان تستعمل حيث يجب.
وشكّلت هاتان المقولتان، في الممارسة، سبيلا لدى هؤلاء (بنوايا حسنة اوسيئة) لالغاء الآخر واقصائه، ووسيلة من وسائل حماية استبداد السلطة.
فإزاء هدف احقاق الدين او استعادة فلسطين صار مفهوم تداول السلطة، او محاسبتها، وتقديس الحريات العامة والفردية، والخوض في تحديث المجتمع والدولة وتنميتهما/ من صغائر الامور التي تعوق المهمات الكبرى…لكأن الانسان خلق من اجل الدين، وان المعادل لفلسطين وطنيا وقوميا هو تأبيد الاستبداد. وربط تحقيق الحرية بتحرير فلسطين، بحيث صار على الشعوب ان تقبل الاستبداد بسبب العجز عن تحرير فلسطين.
وأكبر عمليات النصب السياسي والاجتماعي والمالي التي تعرض لها الناس في المجتمعات العربية، ومنها لبنان، هي تلك التي برعت في استغلال الدين او قضية فلسطين في هذه العملية، إن على صعيد استلاب السلطة او نهب المال العام او مدخرات الناس. فهاتان المقولتان، لما لكل منهما من حضور وجداني وعاطفي في مجتمعاتنا الشرقية، امكن استغلالهما من أجل تهميش العقل لحساب العاطفة، وتقديم الشكل على المضمون، واستثمار الجهل بالشعارات الرنانة التي تنطوي على النقيض مما تدعو. لذلك، ولأنّنا اصبحنا اسرى شعارات مستندة الى العصبيات، نجدنا في الواقع منحازين الى اللصوص المحترفين في السياسة والمال والدين، نضفي عليهم صفات البراعة والتدين ونختلق لهم الذرائع ما دامو من “ملّتنا”، في وقت نضفي على امثالهم، ممن هم ليسو من “ملّتنا”، وصف الشياطين.
للإنصاف والنقاش بطبيعة الحال: الربيع العربي، رغم كل ما يطفو على سطح مساره من تساؤلات مشروعة، ومن نقد، ومن تشكيك مريب… هو في جوهره انتفاضة أخلاقية ومحاولة جادّة وثورية لاستنقاذ الانسان العربي من سلسلة المصادرات السياسية والدينية التي تعرض لها طيلة عقود من الزمن واكثر.
وهو يؤسس لمرحلة جديدة تطوي انظمة الاستبداد سواء كانت دينية او عسكرية او سوى ذلك…
ورغم الآلام التي تواجه مخاضه، ومحاولات مواجهة هذا النزوع الفردي إلى الحرية، الأهم من ذلك هو فرض روح الربيع العربي نفسه على تفكير واولويات الحركات الدينية وغير الدينية.
ليس مطلب الدولة المدنية هو ما تفتقت عنه عقول الاسلاميين وغيرهم ممن يتبنونها اليوم، بل هي ببساطة خلاصة وصلت اليها الشعوب على وجه عام، بأن شرعية اي سلطة تأتي من الناس وليس من الدين، وتأتي من ارادة الشعوب وخياراتها، وليس باسم تحرير فلسطين….ربما هذا ما دفع احد الاصدقاء إلى التعليق على ما كتبت فايسبوكيا، بأنّ “الدين و فلسطين أفيون الشعوب…”، خالطا مقولة ماركس الشهيرة حيال الدين، مع معادلها الفلسطيني. ولا اعتقد ان مفكرا مثل ماركس كان، فيما يتحدث عن الدين، يتحدث عن كلام الله ورسالته الى البشر… بل كان بالتأكيد يتحدث عن الدين الذي صار بين البشر مطية لسلطات وجدت في استغلاله سبيلا لتأبيد الاستغلال وتثبيت سلطانها على الارض وتقديسه…
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد