ثمة أزمة أخلاقية لا يمكن تلافيها في النظر الى دلالة تضامن البعض مع النظام السوري، ومنه التضامن الذي تبديه وتعبر عنه بعض الجماعات التي تندرج تحت ما يعرف بـ”الاقليات”، وهي في لبنان والمنطقة العربية عموما تتركز بدرجة كبيرة لدى الشيعة والمسيحيين. فهذا النظام الذي يتلطى بمنظومة قومية وعلمانية ونظام جمهوري واقعه طائفي بامتياز، وهو يستخدم عناوين ايديولوجية لتغطية غلبة فئة على فئة.وكما ان ممارسته القتل والاستبداد ومصادرته المجال العام للدولة ظلت سمة ثابتة مترسخة في طبيعته، فاقم من ازمة النظام وزاد من نفورها الفشل المزدوج للمشروع القومي على امتداد المنطقة العربية، وللمشروع الاقليمي المتمثل بالدولة الحديثة.
فشلان لا يقتصران على تجربة دولة البعث في سورية، بل يتجاوزانها الى كل الدول العربية. فالنظام السوري يتفق في النوع مع الانظمة العربية في كونها قامت على تشكل كاذب، اي شكل الدولة الحديثة ولكن بمضمون سلطاني يعود الى استلهام نماذج الحكم السلطاني التي شرعت الغلبة والسلطة المطلقة للحاكم في التاريخ العربي والاسلامي. وهذا النظام يختلف في الدرجة عن بقية الانظمة، كونه النموذج الصارخ عن تحكم الاقلية وتلطيها خلف شعارات ايديولوجية قومية وعلمانية وفي درجات العنف التي يعتمدها.
ليس التفكير الاقلوي خصوصية لدى الاقليات بالمنطقة العربية عموما، فحتى الاكثرية العددية تفكر كأقلية، حينما تسعى الى تغليب ثقافتها على بقية الثقافات. وينطوي هذا المعنى في الدعوات المتزايدة الى حماية اهل السنة او النطق باسمهم، وما فكرة تطبيق الشريعة الاسلامية الا تعبير عن تغليب ثقافة على باقي الثقافات، حتى في المجال الاسلامي داخل مذاهب اهل السنة، فضلا عن الشيعة وغيرهم. ومشكلة هذا التفكير الاقلوي تترسخ في أنه لم يتشكل في العالم العربي مجال عام سياسي يدمج الاديان والمذاهب والطوائف وغيرها من العصبيات في فضاء مشترك، بل ظل مجالا للصراع والغلبة بين هذه الفئات.
ولم يرتق المجال العام الى مصلحة مشتركة للجميع ومساحة واسعة لثقافة واحدة ومجال اندماجي يكون فيه للجميع حصة واحدة كمواطنين بلا تمييز ولا غلبة تؤطرهم الدولة بمضمونها الحديث.والى الازمة الاخلاقية التي ترشح من الدعم والتعاطف مع النظام السوري، تجب الاشارة في المقابل الى ان التعاطف مع هذا النظام، كما نجده لدى فئات شيعية ومسيحية في لبنان وغيره ومن الناحية الموضوعية، ليس تعاطفا مبدئيا او اخلاقيا، بل هو رد فعل على متغير لم تتضح صورته السياسية بعد.
في المقابل تبرز لدى هذه الفئات النزعة الانكفائية. فالمجال العام مسؤولية مشتركة لا تقع على فئة دون اخرى. لذلك فإن القيادات والنخب على هذا الصعيد تختار اسهل الطرق في الانكفاء نحو العصبية وترسيخ الواقع الطائفي بدل اعمال العقل وبذل الجهود للخروج من الدولة الطائفية الى الدولة الحديثة، فالتفكير الاقلوي هو باختصار مقتل الاقليات ومصرعها، سواء كانت اكثرية عددية او اقلية.
ومشكلة الشيعة في العالم العربي لها وجهان، الاول انهم يعانون من ازمة اعتراف، ليس كجماعة خاصة فحسب، بل كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات في دول كالسعودية والبحرين. الوجه الثاني هو تضخم الخصوصية الشيعية، تضخما ذاتيا، ولرموزها وافكارها ومبادئها ما يبرر انفصالها عن المجال العام. ويكمن أيضا.في بناء طوباوية سياسية تقوم على المعجزة، تستند الى الخلاص الخاص كمجموعة مذهبية، استنادا الى تضخيم بعض المعتقدات وعلى ابراز الخصوصية على حساب المشترك الديني او الانساني او الوطني والقومي، وهو أحد ابرز مؤشرات الانفصال عن الدولة. وقد ساهم دخول العنصر الايراني، مسلحا بنظرية ولاية الفقيه، في تثبيت هذه المعادلة بترسيخ هذه الخصوصية والنزعة الانفصالية لدى الشيعة العرب خلقت نوعا من الانفصام: عقلهم في مكان وجسدهم في مكان آخر.
هذا التفكير الاقلوي، الذي يعبر عن نفسه ايضا بتحويل مشروع المقاومة على سبيل المثال، الى مشروع طائفة في المعادلة اللبنانية، هو تطويع للمقاومة لصالح الطائفة التي انتقلت من معتقد ايماني الى عصبية في داخلها، تنزع الى ممارسة الغلبة، وتحولت الى ملّة او ما يشبه الحزب. الخروج من التفكير الاقلوي هو التحدي الذي يواجه الربيع العربي اليوم، فالمخاض الذي تعيشه الثورات العربية لم ينتقل بعد من عقدة الغلبة، المتحكمة في المجال العام، الى بناء المجال العام الاندماجي، اي أنّه لم يخرج بعد من التفكير الاقلوي وان كان يتقدم في تثبيت ركائز لا بد منها للانتقال الى الدولة بمعناها الحديث.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد