على ضؤ الموقف المخزي الذي وقفته بكين في مجلس الأمن الدولي مع النظام السوري، وضد قرار الأغلبية بإدانة الأخير ومعاقبته لأعماله المتوحشة ضد شعبه الأعزل التواق للحرية، تعالت تساؤلات عن سر الموقف الصيني ودواعيه، خصوصا وأن سوريا لا تمثل للصين أهمية إقتصادية أو تجارية أو نفطية أو إستراتيجية كبرى كما هو الحال بالنسبة لروسيا الإتحادية التي إتخذت موقفا مخزيا مشابها. فمصالح الصين النفطية والتجارية هي مع دول الخليج العربية (فاقت قيمة مبادلاتهما التجارية في عام 2009 المائة بليون دولار)، ومصالحها الإقتصادية والتجارية والإستثمارية هي بالدرجة الأولى مع الغرب والولايات المتحدة (جل الإستثمارات الأجنبية القادمة إلى الصين مصدرها الولايات المتحدة، كما وأن الأخيرة هي الشريك التجاري الأهم للصين). وكل هذه الدول تقف ضد النظام السوري وسياساته القمعية.
وردا على مثل تلك التساؤلات نقول أن فاقد الشيء لا يعطيه، بمعنى أن الصين، رغم كل التحولات الإقتصادية والتنموية الكبيرة التي حدثت فيها ونقلتها من دولة زراعية فقيرة بائسة، ونظام منبوذ في المجتمع الدولي إلى قوة عظمى ذات مكانة مرموقة في النظام الدولي، فإنها فشلت في تدشين أي إصلاحات سياسية – حتى في حدودها الدنيا – وبالتالي فهي لا تزال على الصعيد السياسي بنفس الصورة القاتمة التي أرساها مؤسسها “ماو تسي تونغ” ، أي أنها لا تزال دولة ديكتاتورية محكومة بنظام شمولي غير تعددي، يكمم الأفواه، ولا يسمح بحرية التعبير، ويطارد معارضيه، ويحجر على وسائل الإعلام، وإن تجمل ببعض الرتوش الخارجية الجميلة (مثل إسدال الستار على سياساتها الخارجية الراديكالية ودعمها للحركات الثورية المتخشبة في العالم الثالث لصالح سياسات برغماتية هادئة).
وما واقعة ساحة “تيان إن مين” في يونيو من عام 1989 ، حينما دهست دبابات الجيش الأحمر أمام مرأى ومسمع وسائل الإعلام العالمية أجساد المحتجين من الشبيبة الصينية سوى دليل واحد صغير على صحة ما نقول، دعك من ملاحقة النظام لجماعة “الفولونغونغ” الروحية المعارضة، ومتمردي إقليمي التيبيت وتشينغيانغ (تركستان الشرقية) وإعتقالهم وزجهم في السجون دون محاكمة، ودعك من تربص السلطات الأمنية بالمعارضين والمطالبين بهامش أكبر من الحرية في هونغ كونغ التي إستعادتها بكين من بريطانيا في عام 1997 ، ثم راحت تقضم شيئا فشيئا كل ما رسخه المستعمر في هذه الجزيرة الزاهية من حريات وحقوق وتعددية، الأمر الذي دفع الهونغكونغيون غير المعتادين على التظاهر والإحتجاج إلى الخروج في تظاهرة مليونية وإعتصامات شعبية عارمة غير مسبوقة في عام 2003 .
بناء على ما سبق، أي وجود تشابه كبير بين النهجين الصيني والسوري في ما خص التعامل مع شعبيهما، فإنه من الطبيعي أن يقف الشمولي مع الشمولي ويناصره ويدافع عنه ويستبسل من أجل عدم إدانته، بل ويختلق المبررات للحيلولة دون معاقبته.
صحيح أن جمهورية الصين الشعبية التي أقامها “المعلم” ماو في عام 1949 على أنقاض جمهورية الصين الوطنية بقيادة الماريشال الملهم “تشيان كاي شيك” تحمس لها الكثيرون في العالم العربي على إعتبار أنه إنجاز وإنتصار ونموذج للمقاومة ضد القوى الإستعمارية والإمبريالية، لكن الصحيح أيضا أن ولادة ذلك النظام كانت ذات أكلاف بشرية عالية قـُدرت بالملايين من القتلى والجرحى والمعوقين والأرامل والأيتام. ولاحقا أضاف “المعلم” في لحظة جنون وخيلاء إلى ضحاياه ملايين أخرى من خيرة أبناء الشعب الصيني من أكاديميين وعلماء وفنانين ممن أرسلهم إلى معسكرات الإعتقال والتعذيب وإعادة التأهيل، وذلك حينما أطلق ثورته الثقافية في منتصف الستينات. وهذا يشبه إلى حد ما ما فعله حزب البعث بعد وصوله إلى السلطة في دمشق في 8 آذار 1963 ، وما فعلته الأحزاب الإنقلابية العربية المشابهة الأخرى حينما جاءت إلى الحكم على ظهر الدبابات تحت شعارات الوحدة والحرية والتحرير والتخلص من الإستعمار والرجعية، فقضت براديكاليتها وجنونها ودمويتها على خيرة رجالات الأمة، وبددت ثرواتها في المغامرات الطائشة، ونشرت الفساد والإفساد والرعب والخوف، وأوقفت عجلة الحياة النيابية الوليدة. بل أن هذه الأنظمة إرتكبت مجازر مشابهة لما قام به الماويون في “الثورة الثقافية” والجيش الأحمر في ساحة “تيان إن مين”. ولعل تدمير الرئيس السوري البعثي الأسبق “أمين الحافظ” لمنازل وجوامع مدينة حماة فوق رؤوس أبنائها في عام 1964، وتدمير الأسد الأب للمدينة ذاتها بالطائرات الحربية وقتل ما لا يقل عن 40 ألفا من أبنائها في عام 1982 ، وما يرتكبه الأسد الإبن من مجازر يومية في مختلف أرجاء القطر السوري خير شاهد.
البعض، بطبيعة الحال، يضع الموقف الصيني في إطار ما عــُرف عن الإنسان الصيني من حذر وتروي في إتخاذ القرار خوفا من إحتمالات الخسارة، وفي سياق التروي الصيني لعلنا نتذكر ما كتبه رئيس الحكومة الصينية “جياوباو” في مارس 2007 في مقال منشور حينما قال “بالنسبة لبلد كبير و معقد التركيب كالصين، فانه من الأفضل أن تأتي الديمقراطية في صورة خطوات متدرجة، ومتوازية مع تحقيق العدالة الاجتماعية و الاقتصادية لجماهير الشعب”.”
لكننا هنا لا نتحدث عن الإصلاح السياسي وإنما عن الموقف من حدث مأساوي يندى له الجبين. ثم هل التروي والتردد في إتخاذ موقف سريع وحاسم إلى جانب الشعب الليبي في ثورته ضد نظام معمر القذافي حفظ لبكين مصالحها في هذا البلد النفطي الكبير وجنبها الخسائر؟ الجواب طبعا لا! فموقفها ذلك كان وبالا عليها، وعلى شركاتها الكبرى التي خرجت اليوم نهائيا من دائرة التفضيل فيما يتعلق بمشاريع إعادة بناء ليبيا، مثلما خرجت من قلوب كل الليبيين.
البعض الآخر يفسر أسباب الموقف الصيني في مجلس الأمن تجاه الأوضاع في سوريا، بأن بكين لم ترد أن تؤسس لسابقة تتيح لخصومها الغربيين التدخل في شئونها الداخلية بحجة حماية الحريات وحقوق الإنسان وحياة المدنيين فيما لو إنتفض الصينيون ضد نظامهم يوما ما، فهي جد حساسة من هذا الموضوع لاسيما وأن هناك شواهد كثيرة على خروقاتها لحقوق الإنسان داخل البر الصيني وفي هونغ كونغ والتيبت وتركستان الشرقية، مما يستخدمه الإعلام الغربي ضدها.
ويجب ألا ننسى في هذا السياق أن بكين كثيرا ما ردت على التقارير الغربية الخاصة بإنتهاكات الحقوق والحريات في أراضيها بإيراد شواهد مماثلة من الغرب، لعل آخره ما حدث في الشهر الفائت حينما جندت القيادة الصينية وسائلها الإعلامية للحديث المكثف عن الإعتقالات التي جرت في بريطانيا والولايات المتحدة بحق المتظاهرين ضد جشع الأغنياء والرأسماليين. وهذا نفس ما فعلته أجهزة الإعلام الرسمية السورية حينما علقت على تلك الأحداث قائلة “أين ضمائركم يا من تتهمون سوريا الحرة والبطلة بالكذب والبهتان”. لكن يبقى السؤال القائم هو أن كل هذا لا يمكن أن يوجد تبريرا مقنعا للموقف الصيني المتخاذل حيال الأوضاع في سوريا. ففي الأخيرة شعب يـُقتل بدم بارد، ومذابح تجري أمام كاميرات الإعلام، وأحياء تقصف بالطيران الحربي والمدفعية الثقيلة، وليس مجرد إصطدامات بين قوات الأمن وحفنة من المشاغبين فرقتها الشرطة بالهروات كما في أوروبا وأمريكا.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh