كان المُراد لحمص أن تكون بنغازي سورية. ولكن ثلاثة أطراف حالت دون ذلك: روسيا بالفيتو والتكنولوجيا، وإيران بالمال والعتاد، وأميركا بالانحياز إلى الموقف الإسرائيلي.
لا يتسع المجال، هنا، لتحليل الموقفين الروسي والإيراني. كل ما في الأمر أننا نسعى إلى تفسير الموقف الأميركي، على خلفية موقف إسرائيل من نظام آل الأسد، ومدى تأثيره على الموقف الأميركي.
في البداية، فلنقل إن الصحافيين الغربيين، الذين تسللوا إلى حمص، وتمركزوا في بابا عمرو، فعلوا ذلك بحكم ما لديهم من علاقات ومصادر معلومات، وأنوف تشم اتجاه الريح. وهذه كلها تحيل إلى حقيقة أن أطرافاً إقليمية ودولية، رسمية وشعبية، دخلت إلى الملعب السوري. وأن هذه الأطراف، أو بعضها، استناداً إلى تزايد الانشقاق في صفوف الجيش النظامي، وارتفاع وتيرة القتل، ومطالبة المتظاهرين السوريين بالتدخل الدولي، شرعت في تداول سيناريوهات مختلفة من بينها السيناريو الليبي.
وهذا يشمل، مع تحويرات يقتضيها اختلاف الظرف والمكان، قيام المسلحين المناهضين للنظام، وفي بيئة شعبية حاضنة، بالسيطرة على مدينة بعينها، وتحويلها إلى مركز للثورة بالمعنى العسكري والسياسي والإعلامي. وتداعيات هذا الأمر، ومن بينها هجوم الجيش النظامي على البؤرة الثورة، من شأنها تحريض المجتمع الدولي، أو بعض الأطراف الفاعلة فيه، والتي أبدت حماسة في هذا المضمار، على القيام بإجراءات من نوع: فرض الحظر الجوي، وإنشاء ممرات آمنة، وحماية المدنيين.
وإدراكاً منه لحقيقة ما يجري، صمم نظام آل الأسد على سحق البؤرة الثورية، وتدمير المركز الإعلامي الغربي، واحتلال حمص، في معركة بلا مُحرّمات. وساعده الروس بأجهزة خاصة رصدت مكان الصحافيين الأجانب.
واللافت، في هذا الشأن أن الدول الغربية، حتى قبل الهجوم الأخير على بابا عمرو، لم تبد حماسة خاصة في مؤتمر “أصدقاء سورية”، للتدخل في سورية. وبعد الهجوم الأخير على بابا عمرو، قالت وزيرة الخارجية الأميركية إن نظام آل الأسد، ارتكب ما يدخل في باب جرائم الحرب، لكن تجريمه يعقّد الأمور.
لماذا لا يريد الأميركيون تعقيد الأمور؟
لأنهم أكثر إصغاءً لوجهة النظر الإسرائيلية.
وما هي وجهة النظر الإسرائيلية؟
وهنا، نصل إلى بيت القصيد. فوجهة النظر، هذه، يمكن تأويلها على النحو التالي:
أولاً، ما يجري في العالم العربي يُقلق إسرائيل، بقدر ما يسهم في إفساد ترتيبات أمنية وسياسية، وحسابات إستراتيجية، استقرت على مدار العقود الثلاثة الماضية، ومنحت إسرائيل قدراً كبيراً من الأمن والأمان. ومن المخاطر: العودة إلى سيناريو الحرب على جبهتين أو أكثر. وانفتاح مخاطر جديدة على شواطئ المتوسط المحاذية لدول في شمالي أفريقيا.
ثانياً، موقف إسرائيل من نظام آل الأسد تحكمه مقولة: “عدو عاقل خير من صديق جاهل”. كان نظام آل الأسد، على مدار أربعة عقود مضت، عدواً عاقلاً، يمكن التعامل معه، والتنبؤ بردود أفعاله. وبالتالي فإن مخاطر وجوده أقل بكثير من مخاطرة غيابه. وهم في الواقع يتبادلون الرسائل باستمرار للتذكير بحدود وشروط اللعبة.
وعلى سبيل التذكير، من رسائل الإسرائيليين إلى آل الأسد: تدمير نواة المشروع النووي السوري في العام 2007، وتحليق طائراتهم الحربية على ارتفاع منخفض فوق سكن الرئيس في قريته القرداحة، أثناء وجوده هناك. ومن رسائل آل الأسد: ما جاء على لسان رامي مخلوف، بعد اندلاع المظاهرات، علاوة على اختراق متظاهرين لخط الجبهة في الجولان.
ثالثاً، يملك نظام آل الأسد ترسانة حربية من الوزن الثقيل. فلديه الكثير من الصواريخ بعيدة المدى، والأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وأنظمة الدفاع الجوي، والكفاءات العسكرية. وفي حال سقوط هذه الأسلحة والكفاءات في يد متشددين في النظام الجديد، أو جماعات غير نظامية، تصبح إسرائيل عرضة لخطر أكبر.
خامساً، التدخل العسكري يحرّض آل الأسد على هدم المعبد على رؤوس ساكنيه، وإشعال حرب إقليمية. فالأمر لا يحتاج إلى أكثر من إطلاق صواريخ سورية على إسرائيل، لا تستطيع الأخيرة عدم الرد عليها، كما حدث أثناء الحرب لإخراج صدّام من الكويت، عندما انهالت الصواريخ العراقية على تل أبيب.
رابعاً، إذا خلق التدخل العسكري وضعاً يشبه الوضع العراقي، ونشبت في سورية حرب أهلية، مع ما يرافقها من فوضى، وخلط للأوراق، فمن المرجّح أن تعمل أكثر من جهة على تسخين جبهة الجولان.
خامساً، وهذا، على الأرجح، ما لا يقوله الإسرائيليون للأميركيين: إذا تدخل الناتو عسكرياً في سورية، وجاء إلى سدة الحكم في دمشق نظام قريب من الأميركيين، ستصبح مسؤوليتهم مساعدة حلفائهم السوريين في حل مسألة الجولان، بطريقة قد لا تكون مرضية للإسرائيليين.
سادساً، وهذا ما لا يقوله الإسرائيليون: لتبرير النفقات والموازنات والدور الاجتماعي والسياسي للجيش، يحتاج الجنرالات الإسرائيليون إلى أعداء، ويفضّل أن يكونوا أعداءً عاقلين. لذا، فإن العثور على حل في الجولان، وفي فلسطين، ليس على رأس أولوياتهم.
بيد أن الفائدة ليست من طرف واحد. فنظام آل الأسد يستفيد، بدوره، من عدوه الإسرائيلي، إذ يستمد مبرر وجوده raison d’etre وبالتالي شرعيته من هذا العداء: قوانين الطوارئ، وتكميم الأفواه، وهيمنة الأجهزة العسكرية والأمنية، وحتى توريث الحكم،كلها أشياء يمكن تبريرها بوجود هذا العدو.
وبالقدر نفسه، يضفي “الصراع” مع العدو هالة من المجد على آل الأسد، الذين حولوا سورية إلى “قلعة للمقاومة، وإلى لاعب في التوازنات الإقليمية والدولية”. هذه أشياء تعزز شرعية العائلة، لكنها لا تعود على المواطنين السوريين بمنافع ملموسة، ولا تمثل تهديداً جدياً لإسرائيل.
وفي هذا، على أية حال، بعضٌ مما يفسر تطوّرات وقعت مؤخراً، من بينها لماذا أحبط الأميركيون سيناريو بنغازي سورية في حمص.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين