من الصعب التكهن بطريقة تفكير النخبة التي تقود سورية، لأنها تتصرف بروح تفتقد الحدَّ الادنى من الوطنية، فهي تقاتل حتى النهاية في معركة تعرف أنها خاسرة، بينما تورِّط العلويين في شيء ليس معبِّراً عنهم، وترهب الاغلبية السنّية في قمع لم تجرؤ عليه جنوب أفريقيا في أسوأ عهود العنصرية، كما أنها تجرّ المسيحيين والدروز من بقية المجتمع للعيش في حالة خوف من كل ما يحيط بالتغيير. النخبة الحاكمة في سورية لا تعي أن ما تقوم به ربما يخيف مرحلياً بعض فئات من السوريين من بعض، لكن مع مرور الوقت تفقد هذه النخبة الفرصة لخروج آمن ولحل متوازن للأزمة التي تعصف بها، فالخوف لا يشتري الاستقرار، وفشل الحل السياسي يفتح الباب للحلول الجذرية التي تزداد عمقاً في المجتمع السوري. في سورية ماتت السياسة، وهذه إرهاصات نهاية حقبة.
كانت الناس في بداية الثورة تثق الى حد كبير بقدرة الرئيس بشار على تحقيق الإصلاحات، إذ رأت فيه المخلص ووضعته في مصاف مختلف عن عائلته وقادة الاجهزة الأمنية. لقد راهن المجتمع السوري على الأسد في البداية، بل وفي الشهور الاولى للثورة، ولكن عندما وعد الأسد بالإصلاح ومارس على أرض الواقع القمع وسمح باستباحة المدن والقرى السورية، بدأ المجتمع السوري يرى أن رئيسه هو الآخر جزء من منظومة لن يتجاوزها، وجزء من طبقة ينتمي اليها. هذه بنية نظام أمني ورثه الأسد عن والده واستند اليه في استمراره رئيساً.
القصة المعروفة بين الأسد وأردوغان رئيس الوزراء التركي، هي الاخرى مفيدة لفهم الحالة السورية، فتركيا حليف وصديق قديم لسورية، وقد وجدت من الضروري ان تساعد سورية وتدفعها نحو الإصلاحات لوعيها بأن الاصلاح هو الطريق الوحيد أمام النظام بعد انفجار الثورة. أرادت تركيا أن تدفع الأسد لإقرار الحياة الحزبية وإيقاف الحل الامني والطوارئ والسعي لتعديل الدستور وتنظيم انتخابات شفافة. وعد نظام الأسد أردوغان بكل ذلك، وهذا فحوى زيارة وزير الخارجية التركي الشهيرة لسورية في آب (اغسطس) الماضي ولقائه المطول مع الرئيس الأسد. وقد اعتقدت تركيا إلى حين، أن بإمكان الأسد من خلال الإصلاحات أن يحمي أجزاء مهمة من نظامه بما فيه إمكانية أن يلعب دوراً في الحياة السياسية السورية، لكن الحل الأمني الذي التزمت به القيادة السورية عاد وأكد للأتراك أن النظام السوري غير صادق وغير قادر على الاستفادة من تجارب غيره من الدول.
إن تصرف النظام السوري القمعي تجاه مطالب الشعب السوري العادلة، يدل على فهم سطحي للقوة واستخداماتها. هذا الفهم ناتج عن طرق تفكير سادت القرن العشرين في العديد من الأنظمة الديكتاتورية. إن ديكتاتورية فرانكو في إسبانيا وديكتاتورية العسكريين في دول عديدة، هي المدرسة التي تعلم منها النظام السوري، كما أن نظرة النظام للحكم تقوم أساساً على القوة والعنف. حكام سورية ينطلقون من أن السياسة تنبع من فوهة القوة والبندقية والإخضاع والاستفراد بالسلطة. هذه الطريقة من الممارسة والتفكير لم تعد منسجمة مع الوضع العربي الجديد، ولم تعد منسجمة مع العصر الذي لا يوفر لها شروط الاستمرار والنجاح. لهذا، فالعقوبات على المسؤولين السوريين، وملاحقات حقوق الانسان، واحتمالات تحرك المحكمة الجنائية الدولية… وغيرها من الأبعاد، تؤكد أن النظام السوري سائر نحو كارثة محققة، وأنه كلما زاد النظام الأمني من قمعه كلما زادت الثورة من اشتعالها، ما سيؤدي الى مزيد من الضغط الدولي والقرارات وصولاً إلى مجلس الامن.
والواضح من سلوك الفئة الحاكمة في سورية، أنها لا تؤمن بوجود الشعب السوري، وأن الشعب السوري بنظرها هو مجموعة من الطوائف المنقسمة على نفسها، بل الأوضح ان النظام يعتبر نفسه الحَكَم الوحيد بين طوائف وفئات وشرائح سورية ساهم أساساً في تأجيج تناقضاتها ليضمن بقاءه. في هذا، يؤمن النظام يغياب مفهوم «الشعب السوري» تماماً، كما كان الاستعمار الفرنسي يرى أن الشعب السوري مكون من أقليات مختلفة متنافرة. وقد استفاد النظام السوري تماماً من التجربة اللبنانية التي ساهم في إشعالها. السلوك السوري الرسمي مصاب بمرض تقزيم الشعب وتقسيمه واعتبار أنه لا يستحق أن يحكم نفسه بنفسه.
لم يفهم النظام السوري بسبب طبيعة مناخه التسلطي وعادات الأجهزة الامنية ومحدودية ثقافته، أن الشعب السوري، على يد جيل جديد، قد نضج مع الوقت، وعلَّم نفسه بنفسه، واكتشف ذاته وقدراته والعالم المحيط به، وأنه لن يقبل بأقل من ان يكون مصدر كل السلطات في ظل نظام مدني ديموقراطي حر. ولم يعِ النظام السوري أن التسلط والاستعلاء والظلم بلا آلية للتعامل مع المظالم وبلا آلية للتغيير السلمي والتداول على السلطة، هي أساس انفجار الثورة السورية، التي تحولت الى ثورة كرامة وحرية. لقد أيقظت الثورة عملاقاً كبيراً، وأدى قمع التعبير والتصفية والمنع والإهانة والاختفاء المفاجئ للمعارضين بعد الثورة، الى تعميق نار الغضب والإصرار على التحرر بين الناس.
يقاتل النظام في سورية حتى النهاية، وهو يرتكب المجزرة وراء الأخرى، ويحاول أن يورط مزيداً من الفئات والطوائف في معركته الخاسرة، وقد يشتري سلوك النظام هذا قليلاً من الوقت، لكنه حتماً يدفع بالبلاد الى الحافة ويزيد من حجم الدمار والخسائر ويجعل عملية اعادة البناء أصعب. والواضح ايضاً ان دموية النظام تجعل النهاية غير سعيدة. شاهدنا ذلك في أكثر من مكان وكان الأسوأ على الإطلاق نهاية النظام الليبي والقذافي. إن القمع والقتل يدفعان بالسوريين الى القطيعة مع آفاق الحل الوسط، فالثورة السورية تحرر أحياء كاملة في مدن، وتحرر مناطق محيطة بالمدن، وهي تزداد امتداداً، وصولاً الى مناطق لم تكن جزءاً من الثورة في الأمد القريب. وقد يشعر النظام ببعض الراحة عند استعادة مناطق من «الجيش السوري الحر» حول دمشق، لكن هذا واقع مخادع، فما يستعيده في النهار لن يبقى معه في الليل، فالمعركة الحقيقية هي أساساً مع إرادة السوريين وأرواحهم، وهذا أمر لا يستطيع نظام كسره بعد سقوط حاجز الخوف.
النظام السوري ينزف يومياً، يخسر مواقع جديدة على مدار الساعة، وعندما يستعيد موقعاً نجده يخسر آخر في مكان آخر في سورية وفي خارجها. لقد أثبتت الأحداث أن الشعب السوري يواجه أصعب ثورة، فهو يتصدى للقوى الامنية والجيش لوحده، وهو يبني قوته لوحده، ويواجه لوحده… وفي هذا يصنع السوريون واحدة من أكبر الملاحم في مواجهة الديكتاتورية والتسلط في الشرق.
* استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
shafeeqGhabra@ تويتر
الحياة