تتابعت الأحداث بسرعة وغرابة، ومن خلال سياسة المكائد والدسائس والخيانات والمؤامرات، صار الاثنان اللذان لم يُسهما بالفعل، بأعمال تنفيذية في الانقلاب الذي نفّذه يوسف صديق، هما القابضين على زمام الأمور في مصر، على نحو ما سلف بيانه من قبل. لكن الشقاق بينهما بدأ يوم أن أقسم عبد الناصر اليمين رئيساً للجمهورية، ثم عندما اتخذ الرئيس المصري قرار تأميم شركة قناة السويس دون أخذ رأى عامر. وظل الخلاف بينهما يتسع إلى أن انتهى نهاية مأساوية؛ وقد دفعت مصر في ذلك ثمنا غاليا، أثر آثارا بعيدة على بعض البلاد العربية، لأن من لا يُحسن الاختيار ركن إلى من لا يُحسن التصرف. وفى الحقيقة فإن كلاهما قد اختار الآخر، فقد كانا صديقين وشريكين (وعن المرء لا تسل وسل عن قرينه). وفي التقدير الصحيح فإنه لولا وجود عامر في مكتب القائد العام للقوات المسلحة، ما اختار كيميت روزفلت جمال عبد الناصر للاتصال به ومساعدة مجموعتهما، ولَـما دفع لهما 12 مليون دولار مكافأة (Honorarium) قيل إنها ثلاثة ملايين، أُنفقت على بناء برج الجزيرة.
بعد إعلان قرار تأميم قناة السويس، انفجر الشعب العربي في كل البلاد بالتظاهر والتأييد، حيث ظنوا أن عبد الناصر هو الزعيم العربي الجديد الذي سوف يحل محل صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الفرنجة، وتحرير القدس، وكانت الأغنية تقول في ذلك (الشعب اللي دفع الراية لصلاح الدين، أودعها يمين عبد الناصر ويمينه يمين). لكن الرئيس المصري بدأ يفيق من أحلام المجد إلى صحو الحقيقة. فقد نبهه المستشارون القانونيون المصريون إلى أن قرار التأميم سوف يتمخض عن إدارة قناة السويس لحساب حملة الأسهم المالكين لها، أي إنه مجرد تغيير إدارة بإدارة، وأن الإدارة الجديدة سوف تكون ملزمة بتسديد عوائد القناة إلى هؤلاء المالكين حتى تمتلك مصر حصصهم، وليس بعد انتهاء حق امتياز الإدارة الممنوح لشركة قناة السويس، عام 1968. وكانت الدول العظمى تعرف ذلك، لأن الأمور لديها أن لكل شيء دراسة مستفيضة، ولكل قضية ملف واضح، مبحوث بعناية من كل الجوانب. لكن كان كلٌ يغنىّ على ليلاه. فبريطانيا وفرنسا رأتا في القرار فرصة يعودان بها إلى الشرق الأوسط- بدليل إعداد كل منهما خطة حربية لهذا الغرض سلف الإلماع إليها؛ مهما قيل غير ذلك، ومهما ادّعتا أمورا أخرى. والولايات المتحدة كانت تريد انتهاز الوضع للقضاء نهائيا على النفوذ البريطاني والفرنسي في المنطقة كما رأت فيه فرصة لتمكين إسرائيل من المرور بسفنها في قناة السويس تنفيذا لقرار الأمم المتحدة السابق بيانه، وتمكين سفنها من المرور خلال مضايق تيران وخليج العقبة ؛ يضاف إلى ذلك وضع قوات طوارئ دولية على الحدود بين مصر وإسرائيل، من شرم الشيخ إلى غزة، داخل الأراضي المصرية حتى ينتهي النزاع بين مصر وإسرائيل. وإزاء الضغوط الأمريكية على بريطانيا فقد انسحبت جيوشها ليلة 22/12/1956 وتبعتها الجيوش الفرنسية، لكن إسرائيل لم تـْسحب جيوشها إلا في شهر مارس 1957 بعد أن حصلت على حق مرور سفنها خلال مضايق تيران وخليج العقبة، وتنفيذ قرار الأمم المتحدة بشأن مرور سفنها في قناة السويس، وبقاء قوات الطوارئ الدولية داخل مصر وعلى طول الحدود. وقد قبل الرئيس المصري هذا الحل الأمريكي بشقيه، وكان يعرف أنه سوف يُغضب الشعوب العربية، فأخفاه عنها حتى شهر مايو 1967، وليست تلك شيمة الزعماء الصادقين المخلصين.
عهدت السلطة المصرية إلى سمسار يهودي من الإسكندرية لكي يشترى من بورصة باريس ومن حملة أسهم شركة قناة السويس كل ما بأيديهم من أسهم. وتسرّب النبأ فزاد سعر هذه الأسهم زيادة كبيرة جداً، واضطر الرئيس المصري إلى شرائها حتى تكون لمصر حصة في ملكية الشركة (وهو ما كان يمكن أن يحدث في صموت وسكوت دون إحداث ضجة إعلامية، فتشترى مصر الأسهم، وهى في أرخص عروضها). ثم دخل الرئيس المصري في محادثات بدأت في روما وانتهت بدفع تعويض قدره 81.2 مليون دولار أمريكي لشراء باقي الأسهم، وهو ثمن باهظ في وقته، كان يمكن أن يكون أقل بكثير لو كان الشراء قد تم بهدوء وفى سلام ومن خلال المفاوضات التي ارتضاها الرئيس المصري بعد العدوان الثلاثي.
علمتُ بقرار الرئيس المصري بالموافقة على عبور سفن إسرائيل من مضايق تيران وخليج العقبة، ووضع قوات طوارئ، من أساتذة في جامعات الولايات المتحدة، مُحبين لمصر وللعرب. وعندما عدتُ إلى مصر، ذكرت ذلك لتوفيق الحكيم – في النصف الأول من الستينيات – فاضطرب وثار وتكلم – كمن يستمع له عبد الناصر أو هيكل – فقال “هوه ده معقول! جمال ميعملش كده أبداً. دي خيانة وطنية. هو الرئيس الخائن لقسمه بأن يحافظ على أراضي الدولة يحنث بقسمه إذا باع جُوال أو جُوالين من الرمل، أم إذا سمح سرا للعدو بالمرور من خلال مضايق تيران وخليج العقبة؟ ثم هل هو من المعقول أن يكافح جمال لإخراج الانجليز كي يضع بدلا منهم – وبعد ثلاثة شهور أو أربعة – قوات طوارئ دولية تقيم على أرض مصر؟” سكتْ ولم أتكلم قط، وربما ذكرت ذلك لبعض الأصدقاء المقربين، حتى إذا ما قرر الرئيس المصري في مايو 1967 إنه أمر بإغلاق مضايق تيران وخليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية، قال لي توفيق الحكيم متعجباً: طلع كلامك صحيح! كيف يعمل عبد الناصر هذه العَملة، ولماذا أخفاها عن الشعب العربي والمصري طوال الوقت كأنها عورة يسترها؟ ومن يومها تغير توفيق الحكيم فصار مضاداً للرئيس المصري وقد كانا يتبادلان الإعجاب من قبل، لكن لطبيعة الحكيم فإنه لم يكن يتكلم عن ذلك صراحة إلى أن كتب بعد وفاة عبد الناصر كتاباً ينتقده فيه.
عام 1964 جاء إلى الرئيس المصري بعض أعضاء حزب البعث من السوريين والعراقيين وقالوا له إن إسرائيل تحوّل مجرى نهر الليطاني، وهذه أفضل مناسبة لمحاربتها، فقال لهم الرئيس إنه لا يستطيع محاربة إسرائيل، وذكر لهم أسباب ذلك، التي لم تـُعلن أو تعرف حتى الآن. ولما قالوا له ولماذا لا تـُعلن هذه الأسباب إلى الشعب العربي؟ رد عليهم بأنه لا يريد أن يعلن ذلك إلى الشعب لأنه سوف يُصدم. وهكذا ترك الشعب يعيش في الوهم ويحيا بالأكاذيب، حتى كانت الصدمة مُروّعة يوم 5 يونيو 1967.
وعندما تبين للرئيس المصري أن بريطانيا وفرنسا تـُعدّان للهجوم عليه عام 1956، بدأ في استمالة الحكام العرب الذين كان يهاجمهم، وسافر إلى الدّمام لمقابلة الملك سعود والأمير (الملك فيما بعد) فيصل. وبعد تكرار كلمات التضامن والتوافق والكرامة العربية، عاتبه الأمير فيصل (كما ذكر الأستاذ هيكل في حديثه مساء الخميس 28/2/2008 على قناة الجزيرة) وقال له لماذا تهاجم الحكام والملوك العرب وتـُكرر القول بأن بترول العرب ملْلك للعرب؟ فرد الرئيس المصري قائلا إنه يقصد بالهجوم ملك العراق. ورد عليه الأمير فيصل قائلا، ومن ذا الذي يستطيع أن يفهم من هجومك على الملوك أنك تخصص فتقصد ملك العراق؟
كان الرئيس المصري قد ابتدع سنـّة مخطئة رُسمت له، هي أن يخاطب الشعوب العربية مباشرة من وراء الحكام، بما فيه الهجوم على هؤلاء الحكام (وهى سنة استـنها بعض الحكام من بعده، ودفعت مصر ثمنا باهظا لها). وكانت بعض الشعوب – كما هو الحال دائماً – ترى في تصرفات بعض الحكام أخطاء فتعارضها في السر أو في العلن، ورأت في الرئيس المصري خلاصا لها من حكمهم، وأنه الزعيم الذي وقف ضد الغرب ويقف ضد الحكام الظالمين.
وبعد أن انتهى العدوان الثلاثي، صوّر المسألة على أنها انتصار له ولزعامته، واعتمد على الأغاني والأناشيد، والاحتفالات والخطب، التي كانت كلها تدور على مدار النصر، والحرب على إسرائيل، وتحرير القدس، والهجوم المُقذع على بعض الحكام العرب بما يتطاول إلى مساس بالأعراض، وهو ما يتنافى مع الخـُلق المصري العفّ ويتجافى مع القيم الإسلامية السديدة. وسكت الجميع عنه، فأرسل الجيوش المصرية إلى حرب اليمن. وفي الخطط الحربية الصحيحة، فإن الجيوش النظامية لا تـُحارب عصابات قط. وفي حرب اليمن هذه بدّد الرئيس المصري الغطاء الذهبي للجنية المصري، بما تداعى بعد ذلك – مع عناصر أخرى – إلى الغلاء الرهيب والبطالة الكثيرة ومشاكل مصر التي تعقدت ولم يعد لها حل سهل سريع.
ولما تأهلت إسرائيل عام 1967 لجولة أخرى للحرب، انطلقت أبواق الإعلام في بعض الدول العربية تعاير الرئيس المصري بالاتفاق السري الذي أعطى بمقتضاه حق مرور السفن الإسرائيلية في مضايق تيران وخليج العقبة ؛ فانفعل الرئيس المصري – كما هو المعروف لهم عن شخصيته، والمقصود منه أن يحدث – وقرر إغلاق مضايق تيران، وبالتالي خليج العقبة. وحشد القوات المصرية في صحراء سيناء، وهى تمر إلى أماكنها، خلال شوارع القاهرة لاستعراض القوة، ثم طلب من الچنرال ريكى قائد قوات الطوارئ الدولية أن يسحب هذه القوات من أماكنها على الحدود بين مصر وإسرائيل، فرفض الچنرال ريكى أن يسحب بعض القوات دون البعض الآخر، فوصل إليه خطاب آخر من القيادة المصرية يحملها من قال عنه الچنرال ريكى إنه “چنرال شرقاوي” يطلب منه سحب قوات الطوارئ من جميع مواقعها، بما يتضمن موقع شرم الشيخ. ويقول الچنرال ريكى إنه اندهش من هذا الطلب (لأنه كان يدرك عواقبه) وقال للواء الشرقاوي، هل درستم الأمر؟ هل تدركون عواقبه؟ فقال له هذا، سوف نتناول العشاء معا في تل أبيب الأسبوع القادم. ويضيف الچنرال ريكى: إننا كنا كوالد يمسك بشدة ولده المشاغب حتى لا يرتكب حماقة، لكن الولد المشاغب ظل يقاوم والده حتى انفلت منه وارتكب حماقته.
وفى يوم 3 مايو 1965 حضر إلى مصر يوثانت أمين الأمم المتحدة يطلب من الرئيس المصري العدول عن قرار إغلاق مضايق تيران وخليج العقبة فرفض. ووقعت من ثم حرب 5 يونيو 1967 التي احتلت إسرائيل بمقتضاها صحراء سيناء والضفة الغربية والقدس وهضبة الجولان، وأصبحت دولة عظمى. وكانت الحرب في التحليل الصحيح، هي أثر من آثار ما يقال إنه تأميم قناة السويس، وكانت الخسارة فيها هزيمة كبرى للشعوب العربية وللقيادة المصرية وللمنطقة كلها، بما تظهر له تداعيات كل يوم، وهى تداعيات سوف تستمر مدة قرنين من الزمان على الأقل.
هذه حقيقة ما قيل إنه تأميم قناة السويس، اختصرته طبيعة الدراسة، لأنها تـُنشر في مقالات، مع أن الحقيقة – عندما تـُكتب – سوف تستغرق كتبا كثيرة.
وكما بدأنا أول قول نعيده. إننا لا نملك كل الحقائق أو نعرف كل الوثائق، ولا ندّعي صلة بصنـّاع القرار أو علاقة بالنافذين من أولى الأمر. إنما قصدنا مما نكتب أن نزيل غشاوة على العيون وأن نبدد وهما عاش فيه العرب زمنا، وما زالوا يعيشون فيه، فهو ليس تاريخا وإنما هو حاضر نحياه. ومع وجوب دراسة التاريخ، فإن فهم العناصر التي تكوّن الحاضر، على حقيقتها أكثر وجوبا وضرورة، لمن يريد أن يحيا واعيا، ولا يغشى في غفلة. ومع الوقت، سوف تـُشكـَّـل لجنة رسمية تطلع على كل الأوراق والمستندات والحقائق وتكتب في ذلك خلاصة ما تصل إليه، وبه تسودّ وجوه وتبيض وجوه.
لقد كان من شأن قرار تأميم شركة قناة السويس، المتسرع والذي لم يُدرس بعناية كاملة كافية قبل إصداره:
(أ) أنه كان في الحقيقة يستبدل إدارة مصرية بإدارة فرنسية، لكنه لم يكن يمتلك شركة قناة السويس، لأنها شركة مساهمة، ملاكها هم حملة الأسهم من فرنسيين وبريطانيين وغيرهم، وهؤلاء لم يكن للرئيس المصري عليهم سلطان أو نفوذ ليـُكرههم على قبول قراره.
(ب) أن الرئيس المصري أضْطـُر إلى شراء الأسهم المعروضة في بورصة باريس بأسعار باهظة، كما أنه أضْطـُر إلى دفع تعويضات إلى باقي حملة الأسهم تبلغ قيمتها 81,2 مليون دولارا أمريكيا وهو مبلغ باهظ. فكأنه في الحقيقة أشترى أسهم القناة ولم يؤممها، وكان البيع والشراء في أسوأ الظروف له ولمصر.
(ج) أنه قـَبـِل لانسحاب الجيوش الإسرائيلية من شبه جزيرة سيناء أن يسمح للسفن الإسرائيلية أن تعبر من مضايق تيران وخليج العقبة، كما قبل تنفيذ قرار مجلس الأمن بمرور سفنها من قناة السويس. كما ارتضى وجود قوات طوارئ دولية على طول الحدود بين مصر وإسرائيل، تقيم داخل الأراضي المصرية، وعلى نفقتها، حتى ينتهي النزاع بينهما.
(د) ونتيجة لقرار التأميم الذي تمخض عن الحقائق السابقة، فقد دخلت مصر أربعة حروب، هي حرب 1956 (العدوان الثلاثي)، وحرب 5 يونيو 1967، وحرب 1968 – 1969 (حرب الاستنزاف)، وحرب أكتوبر 1973 (رمضان).
والسياسي الواعي المُخـْلص لا يزج ببلده في حروب هي غير مستعدة لها، كما يُعنى بأرواح الضباط والجنود ومشاعر الأرامل واليتامى، ويرى أن قطرة دم واحدة من دماء أحد مواطنيه أثقل في الميزان من كل نزعات الزعامة ودعايات النصر وأوهام البطولة.
ثم ماذا؟
لقد قيل قديماً (إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)،
وقد يُقال إننا نخسر بهذه الدراسة أشخاصاً كثيرين أو جماهير عدة. ومن قال إن الكاتب حريص على حسن العلاقة بكذابين دجالين أفاقين، أو بأغبياء جهلاء سفهاء؟
إننا نهدف إلى الحق، والحق وحده. وفى كل كتب الشرائع، ومنها التوراة والإنجيل والقرآن، فإن الحق هو الله. وحسبي الله وكيلا ونصيراً.
saidalashmawy@hotmail.com
• القاهرة
عن تأميم قناة السويس (4)
لا غرابة أن يكون هذا موقف المستشار العشماوي من تأميم قناة السويس ومن عبد الناصر شخصياً، فهو بهذا يتبنى موقف الإخوان المسلمين من الزعيم الراحل، إضافة إلى أن نشأته الصوفية جعلته يغرد خارج سرب عامة المسلمين، ولمعرفة انحرافاته، لطفاً راجع الرابط التالي:
http://www.ansarsunna.com/vb/showthread.php?t=923
عن تأميم قناة السويس (4)
mr asmawy really out of comptative
lot of thanks